أعتقد أن أطفال اليوم، وشبابه، وشاباته، بل جيل اليوم كله، هم أشد الأجيال عبر تاريخ الإنسانية عناء وتعاسة، يولد طفل اليوم في بيت مضطرب، مليء بالمتناقضات، مليء بالمفارقات، مليء بالازدواجيات والإرباك والتخلخل... طفل اليوم يولد بلا أم.. فبعد يوم من ولادته تتولاه حاضنة أو مربية أو شغالة يكون تحت عنايتها بل تحت وصايتها.. بلغتها المختلفة.. وسلوكها المختلف، ومشاعرها المختلفة، فهي تقوم بدور الأم بلا روح الأم، وبلا رائحة الأم،.. فإذا نما إدراكه قليلاً أصبح تحت سيطرة غير طبيعية وغير فطرية... أفلام كرتون فيها حروب وخدع، وأكاذيب، وحيل، وخيال غير سوي.. فإذا زاد إدراكه قليلاً رأيناه وقد أحاطت به ألعاب متعددة ومختلفة، يد بها مسدس، والأخرى سيارة، وفي رجله كرة قدم.. أي انه منذ أن يبدأ في المشي وهو محمل بمسؤولية «ما» حتى وإن كانت مسؤولية اللعب، فاللعب هنا مفروض وليس اختياراً لأن المراد من ذلك كله هو إلهاؤه وإشغاله عن كتف الأم... فإذا شب هذا الطفل قليلاً ووعى بعض الوعي وجد نفسه محاطاً بكوارث العالم، حروب طاحنة، دماء، وطائرات، وقنابل، وبكاء أطفال، واستغاثة أمهات.. بيوت تهدم وحرائق تشب... فإذا وصل إلى سن القدرة على التحصيل رأيت المسكين وقد ذهب إلى المدرسة وهو يحمل حقيبة تنوء بحملها العصبة، مناهج، ومقررات، وأقلام وواجبات.. و.. و بينما من شروط الفطرة أن يولد الطفل في أحضان البراءة وعدم التعقيد، وأن يشب على حياة هادئة هانئة يفتح عينيه فيرى الفضاء والكائنات الأخرى من حوله وهي تمر أمام عينيه بسرعة وهدوء وبسلام. كان العرب الأوائل والخلفاء والموسرون.. يبعثون بأولادهم إلى الصحراء، حيث السكينة والهدوء، والشمس، والنجوم، والنسيم البارد، واللغة الصافية التي يلتقطونها من الفصحاء، فتأتي نفسياتهم نظيفة وألسنتهم نظيفة طليقة.. أي أن الطفل ينمو وهو يحلم ويتخيل، فذهنه يكون صافياً نظيفاً غير ملوث بالمشاهدة المحزنة ولا بالمآسي ولابقطع الألعاب.. وذوقه غير ملوث بركاكة الألسن.. يوم كنا صغاراً كنا نلعب حتى نتعب. كنا نلعب في التراب والطين، نتعرض للبرد والحر.. نخوض في ماء السيل ويجلدنا المطر وتتوسخ ثيابنا بالماء والوحل. لم نأخذ مخفضات حرارة، ولا مسكنات ألم، كنا نركض حفاة نقفز بحرية، وطلاقة لا قيود، ولا حدود، ولا مسؤولية. كنا نركض نلاحق الفراشات، والعصافير، نتضارب ونتصارع، ثم نعود ونتصالح. نجتمع في حلقات، نتحدث، نكذب كثيراً، ونصدق قليلاً، ونتخيل خيالات جانحة، وكاذبة، ولكنها هي التي تصنع الخيال. وهي التي أصبحت مصدر قوتنا.. فإذا كبرنا ودخلنا مرحلة الفتوة والصبا كبرت أحلامنا، وتخيلنا أننا فرساناً، وعشاقاً، فكل واحد منا قيس الذي يهيم بليلى، وعنترة الذي يقاتل من أجل عبلة. اليوم يكبر الطفل وهو محقون بالعقد، والمشاكل ويكبر عقله وهو مليء بالمشاهد المحزنة والمبكية. مذابح وحوادث وصراخ.. لا يعرف كيف يعشق، ولا يعرف كيف يهيم.. مشاهد جنسية وقبح وجداني، ومغامرات تافهة، وحياة مبتذلة ورخيصة. لا يدري أين يتجه ومن يصدق.. اضطراب فكري واضطراب اجتماعي يسمع بعض الوعاظ الذين يفزعون قلبه ويطلون به على مشاهد الجحيم.. ثم يغير القناة فيجد فتاة شبه، عارية تهز بدنها حتى تتساقط النجوم. إنها معجزة أن يخرج من بين شبابنا شبان أسوياء بلا عقد ولا أمراض. * * * أيها السادة اعذروا هذا الجيل.. اعذروا أبناءكم إن رأيتم منهم ما لا تريدون، فليس الذنب ذنبهم ولكن الذنب انهم ولدوا في هذا الزمن المريض، لا تسرفوا عليهم ولا تطلبوا منهم أن يكونوا مثلكم، ففي زمنكم كان هناك فكر متشابه، وسلوك متشابه، ولعب متشابه وحياة اجتماعية متشابهة إن لم تكن متطابقة.. أما اليوم فكل بيت نقيض للآخر فالطفل أو حتى الشاب لا يدري مع من هو.. ففي بيته ألف لون وألف وجه وألف تناقض وهو مع زملائه يسمع شيئاً يختلف عما يسمعه في بيته أو في مدرسته أو مجتمعه. التمسوا لهم العذر كي تفهموهم، لا تقسوا عليهم ولا تقارنوا أنفسكم بهم. انهم يعيشون خضخضات واضطرابات لا تستطيع كل وسائل علم النفس، ولا علم الاجتماع التحكم فيها أو السيطرة عليها أو ضبطها.. انهم محتاجون إلى من يخرجهم من هذه المرحلة العصيبة ولن يتم ذلك إلا بالرأفة بهم وأخذهم باللين، واستدراجهم نحو معرفة الحياة، والناس، معرفة تؤثر في شخصيتهم، وحريتهم وجدارتهم بالعيش في كرامة، وأنهم ما خلقوا للفراغ والهمجية، والعبث، وأن الحياة معركة لا ينتصر فيها إلا من سلك طريق الانتصار، وأنها ليست مجرد أكل وشرب ورفاهية، وعهر وعربدة وأن القيم الإنسانية الفاضلة، والأخلاق الكريمة، والترفع عن التفاهة، هي جوهر الحياة، أشعروهم بأنهم صناع المستقبل.. وهم من يتحل مسؤولية الوطن وأجياله القادمة، نبهوهم إلى أنهم قد يجدون أنفسهم في صحراء الضياع المظلمة إن لم يضيئوا دروبهم بأنوار المعرفة والحياة الجادة التي تجعلهم يثقون بأنفسهم وإنسانيتهم الشريفة الكريمة.. إن نحن فعلنا ذلك فسوف ترون جيلاً واثقاً من نفسه ممتلكاً لأمره. قادراً على العطاء، والابداع وتحمل المسؤولية..