لم يعد العيد هذه المرة بحالته كما مضى، بل عاد بأمور فيها تجديد كما قال المتنبي.. فبين هذا العيد وماضيه مسافات مليئة بالأحداث، حتى ضاقت الأزمنة بتلك الأحداث السريعة، والمتوالية، والغريبة في سرعتها وتواليها، ودويها، وضخامة وقعها، حتى أن المرء لو أنه رأى بعض ما حدث حلماً في منامه، يخجل من أن يرويه لأحد.. فإذا واقع الأحداث، فوق التصور والتخيل والأحلام.. الربيع العربي قلب كثيراً من الأمور رأساً على عقب، أو عقباً على رأس، حتى أن المرء ليحتار ويندهش، ويقف مذهولاً وغير مصدق..!! فكيف تتهاوى هذه الأبنية «الجمهورية» المشيدة بكل أنواع القوة، والجبروت؟.. كيف تتهاوى، وتتساقط سريعاً كما تتهاوى جذوع يابسة في جوف حريق..؟! لكأن الأقدار خططت، وأبرمت، وأحكمت ثم نفذت بشكل منضبط، وملهم، ودقيق. * * * أقول مرة أخرى لو قيل إن ما حدث سوف يحدث بين هذين العيدين، وبهذا التراتب، والتداعي لكان ذلك ضرباً من ضروب الجنون والحماقة.. غير أن هذه المذهلات حدثت، ومن ثم فإنه لم يعد هناك أي مجال لدحر أي احتمال، أو تخيل أو تصور لما قد يقع مستقبلاً، وبطرائق مختلفة ومخاوف مختلفة فالكون كله - في هذه الفترة - مضطرب وقلق، ومختبل، ومختبط، في أمور كثيرة، وبقاع كثيرة.. فهذه الكوارث التي حلت بأمريكا، وأوروبا تنذر بمخاطر، وزلازل لم تكن في الحسبان، فها هو النظام الرأس مالي أخذ يتهاوى كما تهاوى الاقتصاد الشيوعي قبله!! قبل أيام تظاهرت أكثر من ألف مدينة عالمية منددة بوحشية الرأسمالية الربوية. فظهرت على مسرح الأحداث شخصية المرابي اليهودي «شيلوك» في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير.. فآلاف الملايين من البشر مرتهنون لبنوك ربوية بشعة.. فمنذ أن يبدأوا حياتهم العملية، إلى أن يتقاعدوا، أو يموتوا، ورقابهم مرتهنة، وبيوتهم مرتهنة، سياراتهم مرتهنة، حياتهم، وأرواحهم مرتهنة لشركات التأمين، المرتهنة لشركات أخرى..!! هذا النظام غير الأخلاقي هو الذي حول كثيراً من البشر إلى مماليك وقطعان من العبيد للمؤسسات، والشركات الرأسمالية، بشكل همجي ووحشي بشع وكأن البشرية فقدت إنسانيتها.. كل ذلك إلى جانب الانهيار الأخلاقي، والفساد، وغسيل الأموال، والإتجار بالمخدرات واللحم الأبيض إلى إنزلاق كثير من الدول الغربية في مغامرات الحروب، والتدخل في شؤون الشعوب وما تجره تلك الحروب، والتدخلات من نفقات باهظة يدفعها المواطن الغربي من دمه من خلال الضرائب التي جرّت به إلى الإفلاس، والعوز والفقر ومن ثم الثورة والتمرد على واقعه المؤلم، هذه المآسي هي التي أنضجت الوجع الأممي وفجرته، بشكل بركاني وسريع. * * * كل هذه التفاقمات الاقتصادية، والسياسية تنذر بمآس، وفواجع إنسانية، لا ندري كيف تأتي، ولا ندري كيف نتقيها ونتحاشاها، فعالم اليوم خرج من ناموسه الوجودي القائم على الأخلاق الآدمية، التي فطر عليها والتي ترفع من قيمته: «ولقد كرمنا بني آدم» وتجعله فوق الوحشية، إلى الانحطاط به، وقمع إنسانيته... فما يحدث اليوم من هوج ومن همجية سياسية واقتصادية هو مضاد ومناقض لكل الأعراف الإنسانية، فالحروب الاقتصادية امتزجت وتداخلت مع الحروب السياسية، فصارت الأرزاق تقطع، وتقتل في تشابه وتسابك مع قتل الأطفال، والنساء، والعجائز، في بلدانهم، وشوارعهم، وبيوتهم بشكل تجاوز مفهوم الوحشية، فالوحوش لا تفترس بعضها بعضاً، كما يفترس الإنسان أخاه الإنسان اليوم، بهذه الدموية، وموت الضمير، وموت النزعة الإنسانية.. لقد تحولت شاشات التلفاز إلى ساحات تعرض فيها جثث القتلى والذبح البشع... فإذا سلمنا أن دولاً تقتل مواطنيها بحراب الرأسمالية.. فإنه يصعب علينا استيعاب ما تمارسه دولة من قتل مواطنيها بالدبابات، والمدافع، وراجمات الصواريخ، تذبحهم في الممرات والشوارع والساحات بشكل يومي ثم تختتم منجزاتها اليومية هذه بمواكب الجنائز التي تساقطت بشكل مفجع وفظيع، دونما وازع أخلاقي، فضلاً عن الوازع الديني..، أمام هذه الرزايا المتسارعة، يقف المرء حيراناً متسائلاً، وماذا بعد..؟! ماذا سنواجه بعد عيدنا الجديد، وفي عامنا الجديد، وكيف نستقرئ المستقبل وماذا ستنجب لنا الأيام وهي حبالى..؟! كل الذي نتمناه، أن تمرّ الأعياد القادمة، ونحن ننعم بالأمن، والخير، والاستقرار، والبناء، وأن يحفظ الله هذا الوطن من الفتن والشرور.. وكل عام وأنتم في عزة، وارتقاء.