الجوع هو وحش العولمة الذي يفترس فقراء العالم، أي غالبية البشر؛ فهل من قلة أم من كثرة في الغذاء يجوع العالم؟ الرأسمالية، اليوم، حرة طليقة، لا رادع يردعها، ولا ضديد يوازنها، ف"يؤنسن" ما تيسر من "وحشيتها"؛ وهي تُرينا، في وضوح أكثر من ذي قبل، تناقضها المنافي للعقل؛ فمن فيض في الغذاء، يُنْتَج، ويعاد إنتاج، الجوع الجماعي- العالمي، وكأن العالم لا يُنْتِج من الغذاء ما يكفي لتلبية حاجة البشر كافة إليه إلا ليجوع أكثر! الإحساس "البشري" بالجوع هو، في معنى ما، أصل الحضارة؛ فهذا الإحساس هو الأقوى بين أحاسيس الإنسان لجهة دفع صاحبه إلى العمل، والتعلم، والإبداع. إنَّ خشية الإنسان "بوصفه جزءا لا يتجزأ من جماعة بشرية" من الجوع وعواقبه المختلفة، ومن الموت جوعا، هي ما حملته، وتحمله، على العمل، والتعلم، والإبداع. على أن البشر اليوم، حيث الرأسمالية المنفلتة، ب"وحشيتها الجينية"، من عقالها هي التي تمسك بقبضة من فولاذ "تلبسها قفازا ناعما من حرير هو "الديمقراطية"" بخناق العالم، انتزعت من أياديهم كل الوسائل التي بها يمكنهم "إنتاج شبعهم"، فارضةً عليهم، من ثم، أن يستنفدوا جل وقتهم وجهدهم في البحث عن "الرغيف"، وأشباهه، فشرعت "شمس الحضارة" تغرب عن غالبية البشر؛ فكيف للحضارة أن تشق لها طريقا إلى حياة هؤلاء إذا ما انتفى من يومهم "وقت الفراغ"، الذي بوجوده واتساعه، تحضر الحضارة، وإذا ما أصبح الجهاد اليومي، وعلى مدار الساعة، في سبيل الحصول على "الرغيف" هو الذي يستبد بهم، تفكيرا وشعورا وعملا؟!إنني لم أرَ من قضية يتركز فيها الفقر الأخلاقي والإنساني والحضاري للحكومات والحكام والدول.. كمثل قضية الفقر؛ لقد استنفدوا جهدا فكريا وأكاديميا عظيما من أجل تعريف "الفقر"، وإنشاء وتطوير معايير ومقاييس له، واكتشاف أنواعه وأنماطه، وضم ظاهرته، أو ظواهره، إلى العلم، منطقا ومنهجا؛ ولكن من غير أن يوفَّقوا؛ لأن ليس لهم مصلحة في أن يوفَّقوا، في مكافحته، وقهره، ومنع استشرائه.الفقر ليس قدرا، وليس بالظاهرة التي يمكن إلباسها لبوس الحتمية التاريخية، أو النظر إليها مع أسبابها على أنها فطرة الطبيعة التي فطر الناس والمجتمعات الإنسانية عليها. إنه كبرى الجرائم المنظَّمة، ومَصْدر كل شر اجتماعي وأخلاقي وسياسي؛ وإنه الجريمة التي تعدل شرط بقاء لمرتكبيها، الذين منهم "ومن أجلهم" يظهر المنادون بمكافحة الفقر، الذي كلما كافحوه، بأساليبهم وطرائقهم، استشرى واستفحل، وكأنهم، في سعيهم لمكافحته، يريدون قتل البعوض بعوضة بعوضة مع الإبقاء على المستنقع.الفقراء، الذين، سنويا، يموتون بالملايين جوعا، وبسبب أمراض الفقر، أين يعيشون؟ إنهم يعيشون في عالم ينتج من الغذاء أكثر كثيرا مما يستهلك، أي أنهم يعيشون في عالم الوفرة الغذائية؛ ومع ذلك يحاصر الجوع والمجاعة مئات الملايين من البشر!إنها الظاهرة ذاتها.. ظاهرة "الغزارة في الإنتاج "الغذائي" والظلم في توزيعه"، فالرأسمالية، ومهما سعوا في أنسنتها، مع أنها، في العولمة، وبالعولمة، تميل إلى مزيد من الوحشية، لا تبقى إلا بالإبقاء على الفقر والفقراء، فالفقر مع كل منتجاته الاجتماعية والسياسية والروحية، هو خير مجال تستثمر فيه المال والسلطان والنفوذ، فالمناداة برأسمالية بلا فقر وفقراء إنما تشبه المناداة بعالم كله فضيلة ولا أثر فيه للرذيلة!بالفقر، والإفقار، يخلقون بشرا على مثال مصالحهم الفئوية الضيقة، ويشددون الميل لدى كثير من الناس المهدَّدين بالموت جوعا إلى التخلق بأخلاق العبيد، ويجعلون البشر وقودا لحروبهم، التي يشحنونها بكل عصبية تعمي الأبصار والبصائر، وتُلِّون الجريمة بلون الفضيلة، ويسلِّعون كل ما ينبغي لنا تنزيهه عن التسليع كالمبادئ والقيم الأخلاقية والإنسانية، فتزدهر تجارة الذمم والضمائر والعقائد والمواقف.. والمقالات.حتى الدين يتجر به حيث ينتشر الفقر، ويتركز الفقراء، فيؤوَّل ويُفسَّر بما يوافق مصالح فئوية ضيقة، أو بما يشحن السياسة، قولا وفعلا، بوحشية تضاهي الوحشية السياسية للقوة الإمبريالية العظمى في العالم.وحتى مشاعرنا الإنسانية نستثمرها في الفقر، وكأنها من النمط الذي يزول إذا ما زال الفقر والفقراء، فالجائع نبحث عنه لنطعمه يوما ولو جاع بعد ذلك دهرا؛ والفقير نتصدق عليه بما يكفي من المال لجعله فقيرا إلى الأبد، منجبا لنا مزيدا من الفقراء.ويكفي أن نطعم ذاك، ونتصدق على هذا، حتى ننعم برضا النفس، وكأن البر والإحسان هما كل ما يمكننا، وينبغي لنا، عمله في سبيل مكافحة الفقر، الذي، في ثقافتنا، نفهمه على أنه ظاهرة طبيعية حتمية قدرية، لا محل لها بين الظواهر التاريخية، فالمجتمع الإنساني ولد مع أغنياء وفقراء، ولسوف يظل في حاله تلك إلى الأبد؛ وكل ما يمكنا عمله لا يتعدى الإحسان إلى الفقير، والتصدق عليه!لقد حان لنا أن ننظر إلى الفقر على أنه كبرى الجرائم التي نرتكبها، أفرادا وجماعات وحكومات، في حق من نزعم أنهم أخوة لنا، بحسب هذا المعيار أو ذاك من معايير الأخوة، وأن ننظر إلى جزء كبير، أو إلى الجزء الأكبر، من مالنا الحلال على أنه حق للفقير، اغتصبناه في طرائق وأساليب شتى، فالفقر لا يتحدانا على أن نكافحه بما أوتينا من فضيلة البر والإحسان،