خلال عملي في عيادتي ، سألني طبيب امتياز يتدرب معي : كم عاماً لك تمارس هذه المهنة؟ ، قلت له : ربما أكثر من ستٍة وعشرين عاماً. هز رأسه وبدأ عليه الاستغراب ، ثم بادرني بسؤال آخر: ألم تمل من ممارسة هذا العمل لهذه الفترة الطويلة؟. رددتُ عليه : بأني لم أشعر بالملل خلال عملي ، بل على العكس أنا أستمتع بعملي بشكلٍ جيد. سألني: كيف يعمل الشخص في عمل لفترة طويلة ولا يشعر بالملل؟. سؤال جيد ، وكثير من الناس يتساءلون بهذا السؤال أو أسئلة مشابهة تصب في نفس المعنى. قلت لهذا الطبيب الشاب ، بأني ربما أكون لديّ هوايات أخرى مثل الكتابة والقراءة في فنون أخرى بشكلٍ عام ، خاصة الأدب و الكتابة للصحافة فهذا جعل هناك تنوّعاً في حياتي مما لم يجعلني أشعر بالملل من حياتي العملية ، خاصةً أني أعتبر الطب النفسي مهنة ليست روتينية و أتعامل مع المهام في هذه المهنة بحب و شغف ولا أعتبرها واجباً مفروضاً عليّ كعمل روتيني مثل كثير من الأعمال التي يشعر العاملون بها بالملل بعد مرور سنوات. هذا الأمر يعتمد على شخصية المرء و كيفية تعامله مع العمل الذي يمارسه ، فكل عمل يمكن أن يكون مملاً و كذلك أي عمل ممكن أن يكون مُشّوقاً وغير ممل إذا تعامل معه الشخص بطريقة مختلفة و لم يجعله أمراً إجبارياً يمارسه بكره وعدم حب . كثير من الأشخاص تركوا وظائف و مراكز مهمة لأنهم شعروا بعدم حبهم لما يمارسونه من عمل ، ولعل الأديب الكبير والمعروف الجاحظ ترك العمل لدى الخليفة العباسي المأمون ، لأنه يكره أن يكون مرتبطاً بعمل مع الخليفة ، وفضّل الحرية و التفرّغ للكتابة والقراءة و الاختلاط بعامة الناس عن العمل لدى الخليفة برغم الخير و المال الوفير الذي سوف يجنيه من عمله عند الخليفة ، لكنه رأى أنه لا يُريد أن يكون في عملٍ فيه الكثير من المنافسة والحسد و الكيد من الموظفين في بلاط الخليفة ، فترك هذا العمل خلال أيام من ممارسته العمل لدى الخليفة المأمون. كثير من الأشخاص الذين التقي بهم ، يسألوني كيف يتعاملون مع الملل في عملهم و ربما في حياتهم بوجهٍ عام؟. بالتأكيد ليس الأمر سهلاً. فالملل طبيعة بشرية ، والشخص يمل من تكرار الأمور الحياتية الرتيبة عليه وفي حياته. بالنسبة للعمل ، فأعتقد بأن الشخص عندما يحب عمله ، ويتعامل مع وظيفته و مهام عمله بحب ، و يحاول إن كان لا يُحب عمله أن ينتقل إلى عمل يُحبه ، فليس هناك شيء أسوأ من أن يقضي الشخص حياته في مهنة لا يحبها ويمارس عملاً يكرهه كل يوم . هذا يجعله ضيّق الخلق ، سريع الغضب ، غير مهتم بعمله و بإنتاجيته و لا بإنهاء أعمال الناس التي لديه. ولكن قد يتبادر على الفور سؤال : ولكن كيف للشخص أن يُغّير وظيفته أو مهنته و هو بالكاد عثر على هذه الوظيفة التي هي مصدر رزقه و رزق أولاده ويعيش منها؟. نعم هذا أمر صحيح ، ولكن لا يعني ذلك أن يترك المرء وظيفته التي لا يحبها دون أن يخطط لهذا الأمر ، فعليه أن يبحث عن عملٍ آخر يُحبه ، فإذا وجده عندئذ يترك العمل الذي لا يُحبه. أعرف أشخاصاً فعلوا ذلك ، فالبحث عن الانتقال من الوظيفة أسهل من البحث عن وظيفة جديدة عندما يكون الشخص غير موظف. أعني أن الشخص يمكن أن يبحث وهو في عمله ووظيفته عن مكان آخر و عمل آخر يُحبه ولا يشعر بالملل و الرغبة بترك العمل كل يوم يعمل فيه. قد تشعر بالسعادة عندما تغير مكان عملك الآن نحن في زمنٍ عزّت فيه الوظيفة ، سواء أكانت الوظيفة الحكومية أم الوظيفة في القطاع الخاص. أعرف أشخاصاً تنقّلوا بين وظائف عديدة في القطاع الخاص والقطاع العام و لكنهم ما أن يمكثوا فترةٍ ليست طويلة ، حتى يُصابوا بالملل من العمل و الوظيفة التي يعملون بها و يتركونها و يبحثون عن وظيفةٍ أخرى و عندما يجدون وظيفةٍ أخرى فيتكرر معهم نفس ما حصل في الوظيفة الأولى. مثل هؤلاء الأشخاص هم ملولون بطبعهم ، ولا يصلحون لأي وظيفة ولا ينفعون للعمل ، فلا يوجد شخص لا تعجبه أكثر من خمس وظائف أو أكثر من ذلك في القطاع العام و كذلك القطاع الخاص. غالباً ما يستقر أمر مثل هؤلاء الأشخاص إلا أنهم يُصبحون بلا وظيفة و يعتمدون على آخرين من الأقارب والأهل في الصرف عليهم أو يعملون في أعمال حرة بالكاد تقيم أودهم. الأشخاص الذين يملون من عملهم كثيراً ما يسببون المشاكل في العمل ، فهم نيتجة إحباطهم في العمل ، لا يعجبهم الزملاء الذين يعملون بجد ونشاط وحب للعمل ، فيخلقون مشاكل من أمورٍ تافه ، و يجعلون جو العمل متوتراً بسبب مللهم وعدم حبهم للعمل ، وتجدهم كثيري الغياب عن العمل و دائماً يشكون من أمراض و يحصلون على إجازات مرضية كثيرة بسبب أمراض غامضة. كذلك تجد مثل هؤلاء الأشخاص ليسوا على علاقاتٍ جيدة مع رؤسائهم في العمل ، و يحاولون دائماً أن يجعلوا من رؤسائهم أشخاصاً متسلطين و أنهم هم ضحايا لهؤلاء الرؤساء ، بينما العكس هو أنهم هم من يتسببون في المشاكل و يخلقون متاعب للرؤساء و المسؤولين عنهم في العمل. لديّ عدد من المرضى من هذا النوع ، فدائماً يأتون شاكين من سوء الرؤساء في العمل وعدم تقديرهم لظروف هؤلاء الذين يُعانون من الملل في عملهم ، والحقيقة أن الرئيس أيضاً مسؤول عن الموظفين الذين يرأسهم أمام رؤوساء أعلى ، ولكن هذا الشخص يظن أنه مركز الكون و أن على الجميع أن يقّدر حالته النفسية وملله من عمله وعدم حبه لهذا العمل ، ويرفض أن ينصاع للأنظمة والقوانين التي تُجبر جميع الموظفين على أن يكونوا في وضع عملي جيد. مثل هؤلاء الأشخاص يسبببون مشاكل حتى في العيادة ؛ إذ يطلبون إجارات مرضية بشروطهم وللفترة التي يُريدونها وكذلك يتذمرون من الانتظار في العيادة ويرغبون في معاملة خاصة في العيادة ، فهم بطبيعة الحال أشخاص مُتعبون!. مشكلة الملل في العمل ، قد تجعل الشخص يُعاني من ملل في حياته بشكلٍ عام. الشخص غير السعيد في عمله قد ينعكس ذلك على حياته العامة ، فيُصبح غير سعيد في منزله ؛ مع زوجته و أولاده ، وقد يكون كذلك غير سعيد في علاقاته الاجتماعية ، مما يجعله قد يُعاني من عزلة اجتماعية وهذه تُزيد الأمر سوءاً و تجعله أكثر توتراً في عمله ، فبخلاف الملل من العمل يُصبح سريع الغضب و مصدر إزعاج لمن حوله ، سواء في العمل وربما في المنزل و كذلك ربما الأصدقاء!. في المقابل يجب على المرء ألا يستسلم للملل في عمله ، فبإمكان المرء أن يستخدم ذكاءه و قدراته العقلية التي منحها له الخالق سبحانه وتعالى في أن يحاول أن يتأقلم مع العمل الذي يعمل به. هناك أعمال صعبة فعلاً و الشخص الذي يعمل بها قد لا يُطيق أن يتحمل أن يُمضي في هذه الوظيفة فترةً طويلة. بالرغم من هذا القول فإن المرء بإمكانه أن يجد بعض الأمور الجيدة في عمله الذي يشعر بأنه ممل. لا يوجد عمل جميع ما فيه سلبي ، لابد أن يكون هناك بعض النقاط الإيجابية في هذا العمل. تطلع إلى العمل بايجابية قام أحد الباحثين الأمريكيين بدراسة عن أسوأ الأعمال وأصعبها ، حيث قام بتجربة أكثر الأعمال مللاً وخطورةً و صعوبةً ، ولكن مع ذلك وجد أن بعض الأعمال برغم من صعوبتها و خطورتها إلا أن بها بعض الجوانب المشرقة التي تجعل المرء يستطيع أن يتأقلم معها و يعيش صعوبتها التي قد تكون خطيرة على الحياة. التفكير الإيجابي بالوظيفة أو العمل الممل ليس أمراً سهلاً بكل تأكيد ، لكن هذا لا يجعل المرء ينزلق في هوة القنوط و الإحباط الشديد في كافة جوانب حياته ، ثم أن الملل من العمل بوجهٍ عام لا بد أن ينتاب أي شخص يعمل في وظيفةٍ ما بعد فترةٍ معينة من حياته ، ولكن لا يجب أن تكون هذه المشاعر طاغية بحيث تجعل المرء يُضيّع مستقبله. ثمة أمر في غاية الأهمية وهو أن يكون للمرء هواية أو هوايات غير العمل ، فهذا يُساعد المرء على تحمّل جفاء العمل و الملل من ممارسة عمل هو مصدر رزق للشخص و عائلته. الأشخاص الذين لديهم هوايات أو هواية يعيشون حياة أكثر سعادةً من الأشخاص الذين ليس لديهم أي هواية و يعيشون فقط للعمل دون أي هواية أخرى خارج نطاق العمل كي تجعلهم أكثر سعادةً. ليس بالضرورة أن تكون هذه الهواية ذات فائدة مادية أو تعود على صاحبها بمردود مادي ، لكن تأثيرها المعنوي كبير على الشخص الذي يمارس هذه الهواية. هناك أشخاص لديهم هوايات بسيطة مثل جمع الطوابع أو تربية الحمام أو ممارسة لعب الشطرنج أو الخروج في نزهات خلوية مع الأصدقاء أو أفراد العائلة. المهم أن يكون للفرد هواية تُساعده على أن ينسى فيها العمل الذي يُشعره بالملل ، و يُخرجه من دواّمة الروتين الذي قد يجعله يدخل في كآبةٍ مؤلمة له و ينعكس ذلك على حياته بشكلٍ عام ، من حيث حياته مع أسرته أو اصدقائه أو علاقاته الاجتماعية مع أقاربه. الهوايات أمرٌ ليس عبثاً وليس مضيعةً للوقت ، فثمة أحيان يكون للهواية دور بارز في تغيير حياة المرء ، أشخاص كانوا يعملون في أعمالٍ لم يكونوا منسجمين مع هذه الوظيفة ولكن هواياتهم جعلت حياتهم أكثر ثراءً ، بل إن بعض الأدباء كانوا يعملون في وظائف مملة ولكن ذلك دعاهم إلى التوّجه إلى الكتابة ، فبرع كتّاب و أدباء من مهنٍ مختلفة. لم تقف هذه المهن التي كان يعمل بها هؤلاء الأدباء من الإبداع و التمّيز . بعض الأدباء كانوا يعملون في مهنٍ بسيطة ، فبعضهم كان يعمل نجاراً و آخر كان يعمل حداداً و آخرون كانوا يعملون في مهنٍ بسيطة ، فالروائي السوري الشهير حنّا مينا كان يعمل حلاقاً قبل أن يشتهر و يُصبح روائياً معروفاً. فكونه يعمل حلاقاً لم يمنعه هذا من أن يستغل هوايته في الكتابة و يبدأ في نشر القصص و بعد ذلك الروايات التي جعلت منه كاتباً مشهوراً. هكذا فالهوايات تجعل الملل الذي يُعاني منه الموظف أو العامل في وظيفة لا يُحبها يبدو مقبولاً حيث إن الشخص بعد أن ينتهي من عمله الذي قد يكون مملاً بالنسبة له ، قد يلجأ إلى الهواية التي تُسعده. تغيير العمل كما ذكرنا سالفاً هو أمر جيد و محمود إذا كان المرء يستطيع ذلك ، ولكن إذا كانت هناك صعوبة في ذلك فعلى المرء أن يستمتع بإجازات بين فترةٍ و أخرى لكي لا تُصبح حياته كلها عمل لا يُحبه الشخص. الاستمتاع بالإجازات الرسمية أمر يساعد على التخفيف من حدة و كسر روتين العمل الممل. كذلك عطلات نهاية الأسبوع يجب على الموظف أن يستمتع بها و يتخلّص من التفكير في العمل و لا يحمل عبء ملل العمل في الأيام المقبلة ، بل عليه أن يستمتع بأوقات الإجازات سواء كانت الطويلة أو القصيرة ، ويحرص على عدم إشغال نفسه بمشاعر الكآبة و يُحمّل روحه بما لا تُطيق من عدم رضا عن العمل و يقضي جميع أوقاته بندب حظه العاثر لكونه يعمل في وظيفةٍ أو عملٍ لا يحبه و مُجبر على أن يقوم به كل يوم. في الختام أرُيد أن أقول بأن الملل طبيعة بشرية ، ويمكن أن يحدث لأي شخص سواء أكان في العمل أم في الحياة العائلية و لكن يجب على المرء الأ يستسلم لهذا الملل بل عليه أن يجد مخرجاً من هذا الملل ، و أن ذلك ممكناً إذا عمل الشخص على أن يُخلّص نفسه من هذا الملل و أن يعيش حياة فيها الكثير من الأمل حتى و إن كان الشخص يشعر بأن الملل يُخّيم على عمله أو حياته العائلية أو الاجتماعية. على المرء ألا يقع في مستنقع الكآبة بسبب ملله في عمله أو أي جانب من جوانب حياته المتعددة ، الإنسان يستطيع أن يُغّير من حياته إذا كان يُريد ذلك ويعمل من أجل ذلك. اكسر روتين العمل