أصاب الملك خالد -رحمه الله- الحقيقة كلها عندما قال ذات يوم مضى: "الكل يحسب أنه الأغلى عند سلطان".. وهي العبارة التي تجسدت في وداع الأمير سلطان -رحمه الله-، حيث تسابق الناس من كل حدب وصوب لإلقاء "النظرة الأخيرة" على جثمان صاحب القلب الطاهر، الذي ملأ الدنيا حباً، ووفاء، بذلاً، وعطاء.. وكان رحيله مهيباً كهيبته.. محزناً بقدر قدره لدى محبيه، فلم يكن منظر المتهافتين على الوداع الأخير للأمير سلطان -رحمه الله- اعتيادياً، فالجميع يُعّزي في غياب جسد سلطان، والكل يواسي نفسه بأن روح سلطان، وابتسامته، وأعماله الخيّرة، ستظل محفورة في قلوبنا ما حيينا. لقد جسّد عزاء الأمير سلطان -رحمه الله- قادماً من الخارج من قبل أفراد الأسرة المالكة، ومواراته الثرى، مشهداً أثلج الصدور، وأبكى المحاجر، وأثار الغبطة؛ لما فيه من تعاضد قادة، وتلاحم أخوة، ومحبة شعب، في موقف "الوداع الأخير" لرجل سطر اسمه في التاريخ بمداد من "خير" لا ينقطع أجره بإذن الله.. خدم الأمة في حياته بأعماله ومبادراته ومواقفه التاريخية.. وحتى في مماته -رحمه الله- كانت الدموع على رحيله بمثابة غيث أمطر القلوب، فكان الجميع حاضراً لوداعه.. و"الكل يحسب أنه الأغلى عند سلطان". وجاء الحضور الكبير والالتفاف العظيم من قبل قادة الأسرة المالكة في عزاء الأمير سلطان -رحمه الله-، مجسداً معاني وحدة القيادة، والتلاحم والتكاتف في يوم وداع "سلطان الخير"، وفي ذلك استشعار للمسؤولية من القادة والمواطن، حفاظاً على وحدة الوطن، وتماسكه، حيث اصطف أصحاب السمو الملكي وأبناؤهم وأحفادهم، حتى صاروا كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا، مجسدين معاني الأخوة والأبوة بين أبناء وأحفاد الملك عبدالعزيز تغمده الله بواسع رحمته، موجهين رسائل بليغة للأجيال في الحضور المشرف أثناء المنعطفات والمحكّات ومواقف الفقد، موصلين رسالةً بليغة في معاني الأخوة والحكمة في وقت تمر به المنطقة المحيطة بالعديد من الظروف المضطربة، بينما تَنعم المملكة بالاستقرار، بفضل من الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل القيادة الرشيدة، ووعي الشعب وحبه لوطنه وإخلاصه لقيادته. إن وجود خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مقدمة المصلين على الأمير سلطان.. حضوره متحاملاً على آلامه.. ولم تمض سوى أيام معدودة على إجرائه عملية جراحية في ظهره -شفاه الله-، كان له وقع مؤثر في نفوس الكثيرين.. لم يكن كما جرت العادة بأن يستقبله ويصافحه.. بل كان يلقي نظرة الوداع الأخيرة.. لجثمان عضده الأيمن، وولي عهده، وأخيه، ورفيق دربه.. كانت النظرات الأخيرة أكبر من أن تُعبر عنها جميع لغات العالم.. وأبلغ النظرات تعبيراً في لغة العيون.. حدق بعينيه قليلاً.. استرجع ذكريات الماضي.. ثم ترحّم، ومضى. الأمير نايف مشاركاً في تشييع جثمان الفقيد إلى مثواه الأخير نظرات الملك -حفظه الله- تجاه جثمان الأمير سلطان -رحمه الله- لم تكن عابرة؛ بل كانت معبّرة، وتحمل في طياتها العديد من المعاني التي ألهبت مشاعر المواطنين، وتكشف حجم "الفَقد" بين القائدين.. ومدى ارتباطهما الأسري والعملي معاً.. والعلاقة التاريخية بينهما، والتي جسدها خادم الحرمين الشريفين بتحامله على نفسه، وإصراره على استقبال جثمان الأمير سلطان ومواراته الثرى. ومن الصور التي ارتسمت في أذهان الشعب، وسجلت شعوراً بالزهو والفخر هو حضور عدد كبير من أصحاب السمو الملكي الأمراء ووقوفهم على جثمان الأمير سلطان -رحمه الله- حتى مواراته الثرى، فضلاً عن حضور رؤساء الدول وكبار قياداتها وأعداد كبيرة من المواطنين، حرصوا على المشاركة في تشييع جثمان "سلطان القلوب" الذي تربع في قلوب محبيه بتواضعه الجم، وابتسامته التي لا تفارق محياه، كيف لا.. وهو القائل: "أنا ابن لكم، وأخ لكم، أخدم صغيركم وكبيركم"، حيث كانت عباراته تفيض دفئاً بمشاعره الأبوية الجياشة، وتجسد روح المسؤول المحنك، والقيادي الخبير، والإنسان سلطان. ولا يسُتغرب الحزن الذي عم أرجاء العالم بفقده، فهو الذي ذكر عن نفسه أنه لا يرد طلباً من أي أحد في مواقف يكون فيها تعريف "التواضع" و "الكرم" جزءاً من اسم الأمير سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله-، حيث قال ذات يوم: "في الواقع أنا لا أريد أن أعطي نفسي أكبر من حجمها، ولا أريد أن أقول انني ملم بحاجات الناس، ولا استطيع أن أقول إنني أجيب على كل الناس، لكن الشيء الذي أحب أن أؤكده هو أنني لا أرد طلباً هاتفياً، أو كتابياً، أو لقاء من أي مكان، رجلاً كان أو امرأة، شباباً أو شيباً، بواسطة أو بغير واسطة، لأني اعتبر نفسي خادماً لهذه الأمة.. ولا أعلم أن أحداً سأل عني إلا وأسأل عنه، مريضاً كان أو محتاجاً، أو مظلوماً، أو كان يريد سؤالاً أو جواباً، ولا أقدر أن ألوم نفسي في حق الناس اطلاقاً، لكن أقول انني على الأقل مطمئن في نفسي اني تجاوبت مع الرجل حتى ولو كان غير راضٍ عليّ، أو حتى غير مقتنع بعذري". اليوم يمضي، وغداً يأتي، والتاريخ يسجل للأمير سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله- أعماله الخالدة، وإنجازاته الخيرية، وفاضت روح الأمير الطاهرة إلى بارئها.. وستظل أعماله حاضرة إلى الأبد.. رحم الله الفقيد .. وأسكنه جنة قطوفها دانية. الأمير سلمان يواري جثمان أخيه في مقبرة العود واس