يبدو أن نبرة التفاؤل والحماسة فيما يخص الثورة العربية انطفأت! وقد لاحظ المتابعون وبقلق ما يجري في الدول العربية التي حدثت فيها الثورة ونجحت في هذه المرحلة - جزئيا- في اسقاط النظام، وأعني هنا تونس ومصر. فلم تستقر الأمور فيهما بعد، وبين الحين والآخر تلوح مشاكل عميقة واضطرابات أمنية، بل ربما يظهر التحسر من البعض على عهد النظام الذي قضى! فما الذي حصل؟!. الآن انتهت الثورة وسقط النظام، وأتت مرحلة ما بعد الثورة وهي ربما المحك الحقيقي للثوار والشعب عموما. أثناء الثورة ظهر التلاحم وذابت الخلافات الفكرية والمصالح الذاتية. في مصر على سبيل المثال وقف القبطي بجانب المسلم واجتمع الإخوان المسلمون مع الليبراليين على صعيد واحد..! لم يلتفت أحد الى الآخر ليسأله عن دينه أو اتجاهه الفكري. كان السؤال الأهم والهاجس الأكبر التخلص من الظلم والفساد والاستبداد والمتمثل في النظام القائم. الآن تحقق الهدف وجد الثوار والشعب أنفسهم أحرارا! ماذا بعد إذن؟!. استحضر هنا مقطعاً من رسالة مؤثرة خطها "نيلسون مانديلا" الى شباب الثورة العربية، يقول في استبصار عميق: "خرجت إلى الدنيا بعدما وُورِيتُ عنها سبعا وعشرين سنة، لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور كانت كثيفة على المستوى الشخصي إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن، إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا؟. أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم. لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير وهو سؤال قد تحُدّد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم. إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم. فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي!". وهنا برأيي تكمن المشكلة كيف سيقام العدل وبأي طريقة؟!. الثورة والمظاهرات طابعها انفعالي، بينما ترسيخ الحرية وقبول الاختلاف عملية فكرية وهي أصعب وتتطلب تغييراً عميقاً في البنية الثقافية للمجتمع!. كان الثوار جماعة وكياناً واحداً كما أسلفت! والآن بعد سقوط النظام عادت الجماعة الواحدة الى كياناتها الصغيرة. بل حتى من لم تكن له علاقة بالثورة ادعى ملكيته لها وهكذا غدا كل يدعي الوصل بليلى!!. من ناحية ينصح"مانديلا" بتجاوز الأحقاد والضغائن والخروج بأسرع الإمكان من مرحلة تصفية الحسابات والانتقام لأنها برأيه منهكة للدولة وفيها اهدار للطاقة والوقت. ويضيف أن على العرب استحضار قول نبيهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وأنه هو لو انصرف لعملية القصاص وملاحقة البيض وتقليم أظافرهم لانجرفت جنوب أفريقيا الى حرب أهلية وقمع وديكتاتور جديد!!. ما يحدث الآن أيضا من فوضى واضطراب يعود-كما ذكرت في مقال سابق- الى التقدير المبالغ لفاعلية الذات Self-efficient والتي تعني أن الفرد يبالغ في إيمانه بقدرته على التغيير وتحقيق الأهداف. وبالتالي يأخذه الحماس المفرط ونشوة الانتصار، فيتشوه إدراكه للواقع ويغفل عن ما تتطلبه أبسط قواعد الضبط والنظام وهذا رأيناه في مصر من "جمعة" الى أخرى يخرج الناس ليطالبون بكذا وكذا!. علاوة على ذلك الانسان الذي يتعرض لفترات طويلة من القمع ما أن تحين الحرية تختلط عليه الأمور ويفتقد لحسن التصرف مما يجعله يحتاج وقتاً لكي يستعيد اتزانه! وما ينطبق على الانسان كفرد يمكن قياسه على المجتمع ككل. وان كان في حال المجتمع سيكون الحال أكثر تعقيدا!. بالامكان القول إذن أن هناك عدة عوامل ساهمت في خلق الفوضى التي أعقبت الثورة. ولنقارب الواقع أكثر علينا أن نتنبه للقوى السياسية الأخرى سواء أجنبية أو عربية التي لها أجندتها ومصالحها الخاصة وستحاول أن تجد ممثلين شرعيين لها يكفلون تمريرها وبالتالي ستكون طرفا في صراع السلطة الجديدة ولو بعيدا وفي الظل!!. كما أن الثورة فالبداية لم يكن لها قائد أو رمز يلتف حوله الناس ويسلمونه مقاليد الأمر فالنهاية كما في ثورة عبدالناصر والخميني على سبيل المثال! لذلك يبدو أن الشعب العربي الذي انعتق من أسطورة القائد أو البطل يدفع ثمن هذا الانعتاق الآن! اجمالا ما تمر به هذه الدول مرحلة طبيعية ولكن لا بد من الشعب أن يكون ذكيا وحكيما فلا يطيل أمد عدم الاستقرار!. دائما أقول أن اختبار الحرية أصعب اختبار! كيف يمارسها الفرد مع نفسه ومع الآخرين؟! واذا كان الفرد العربي في هذه الدول تخلص من المستبد ولم يعد يخاف من السجون الخارجية، على هذا الفرد نفسه أن يكون حذرا ويقظا من السجون الداخلية في ذاته والتي ترسخت بفعل القمع وغياب الحرية لسنوات طويلة، فهي تؤثر على سلوكياته بأكثر مما يعتقد!!. وربما بداخل هذا الفرد تكون ديكتاتور صغير يتحين الفرصة ليمارس على الآخرين ما حارب هو نفسه وقاتل من أجل التخلص منه!. وفي هذه الحالة يحتاج المجتمع بأسرع وقت إلى بناء مؤسسات حقيقية وليست ورقية تحمي الحرية حتى ممن هتفوا باسمها فالبداية فالحرية لا بد أن تكون لجميع فئات المجتمع وهي مشروعة ومطلوبة لكل فرد ولكنها مشروطة في نفس الوقت بتحقق حرية الأفراد الآخرين وعدم مصادرتها!. في كتاب صدر حديثا في باريس يحمل عنوان"الثورة العربية: عشرة دروس مستخلصة من الديمقراطية" لجان بيير فلو الأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس. يقول "فلو" أن الغرب دعم كثيرا الأنظمة الديكتاتورية لاعتقاده أنه كان بين خيارين إما نظام أصولي متطرف أو ديكتاتوري، فاختار الثاني!. ولكن الآن هناك خيار ثالث هو خيار الديمقراطية الذي سيأخذ وقتاً غير قصير من الشعوب العربية حتى تتعود على لعبة الديمقراطية وتداول السلطة. ولا يخشى الباحث كثيرا من التيار الأصولي فهو برأيه منقسم على نفسه أكثر مما نظن! وأن هذه الثورات ستكون امتدادا لنهضة القرن التاسع عشر التي لم يكتب لها أن تكتمل. ورغم رأي "فلو"؛ في اعتقادي ما زالت كل الاحتمالات قائمة! وسنظل ننتظر ما تسفر عنه الأيام وحتى الشهور القادمة! وكم أتمنى أن يكسب الشعب العربي الرهان الحقيقي وهو رهان الحرية وقبول التعددية!. ختاما لنتأمل ما يقوله "آدم ميكنيك" أحد مناضلي الثورة البولندية عام 1989: كل ثورة تتألف من طورين: الطور الأول هو طور النضال من أجل الحرية، والطور الثاني هو طور الصراع على السلطة. والطور الأول يجعل الروح البشرية تحلق في عنان السماء ويحرر في الناس أفضل طاقاتهم. أما الطور الثاني فإنه يخرج منهم أسوأ ما فيهم: الحسد، والتآمر، والجشع، والارتياب، والرغبة في الانتقام!!.” *قسم علم النفس"علم نفس اجتماعي"- جامعة الملك سعود