لمحة واحدة لطلبة العاصمة «كيب تاون» يخرجون من مدرسة نموذجية عبارة عن «كمباوند» متكامل بحدائقه ومكتبته وكافيتريا وكنيسة ومرافق مختلفة، وهم يسيرون بطريقة كلاسيكية. لمحة أخرى على حديقة company garden تلك الحديقة المترامية الأطراف بجميع مستلزماتها، من متحف جانبي ومطعم، إلى أطفال مع معلماتهم يتعلمون على العشب النظيف في رحلة قصيرة، وأسر يجلسون على المقاعد بهدوء وتأمل، وعزاب يأكلون الساندوتشات بترتيب، وفقراء ينامون بهدوء على المقاعد وبيدهم حقائبهم الصغيرة. لا يوجد مخلفات للسناجب والطيور على الأرض. أمطرت المدينة أياماً لكننا لم نغرق. كانت الأرصفة مرتبة. والسيارات تنزلق بسهولة على الإسفلت. الشعب لديه مسؤولية تجاه البلد فلا يخربون «ممتلكاتهم» العامة، ولا يلقون مخلفاتهم في الطرقات. كل ذلك إلى جانب قدرتها على تنظيم انتخابات حرة ونزيهة منذ 1994، ما يجعل للبلاد قوة مؤثرة في المنطقة، بل واحدة من أكثر الديمقراطيات استقراراً في القارة الإفريقية. إنها بنية تحتية حقيقية. حتى بيوت الصفيح الصغيرة في الشوارع الخلفية البعيدة تحولت إلى مشهد فني سريالي بلوحات ورسوم وتنسيق. حتى النشيد الوطني لجنوب إفريقيا يتضمن كلمات الوحدة: نسألك ربنا أن تحمي أمتنا، تدخَّل يا رب وانهِ كل الصراعات!. أنا لا أتحدث عن دول متقدمة عتيقة شأن بلدان العالم الأول، بل عن دولة كانت ترزح تحت المصاعب والاحتلال منذ سنوات ليست ببعيدة. من الجميل أن نعلم أن البلدان العربية ساهمت بشكل كبير أيام قراع الفصل العنصري وفي تحرر هذه الدولة. وهذا ما يقدره مانديلا نفسه. خاصة أن الأمن القومي العربي مرتبط بصورة أو بأخرى بالأمن القومي الإفريقي، وكلاهما يمثل عمقاً للآخر. وهي حاضرة وبقوة إزاء ملفات عربية مهمة ومصيرية في إفريقيا والشرق الأوسط. ومواقفها الداعمة للحقوق الفلسطينية في المحافل الدولية هي مواقف تاريخية ساهمت في وقوف دول القارة السمراء جميعها إلى جانب العرب في صراعهم الطويل مع إسرائيل. ورسالة مانديلا هذا العام رسالة ربما لم يتوقف عندها الثوار ولا حتى الأنظمة كثيراً حين قال «ما زلت أذكر ذلك اليوم بوضوح. كان يوماً مشمساً من أيام كيب تاون. خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آلاف عام. خرجت إلى الدنيا بعد أن وُورِيتُ عنها سبعاً وعشرين حِجةً لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد. ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن، إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو: كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلاً؟ أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم؛ لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير. وهو سؤال قد تحُدّد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم. إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم؛ فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي». وقال أيضاً في رسالته لثوار مصر وتونس «أذكر جيداً أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحدٍ واجهني هو أن قطاعاً واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد. تخيلوا أننا في جنوب إفريقيا ركزنا، كما تمنى الكثيرون، على السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم؟ لو حصل ذلك لما كانت قصة جنوب إفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح الإنساني اليوم». الربيع الجنوب إفريقي ليس سوى نموذج واقعي ومثال يُحتذى لتجربة الربيع العربي، إن كان ثمة ربيع منتظر. وهذا ما أراد مانديلا أن يوضحه للثوار العرب. وحدة الوطن ووحدة الهدف، وردم حفر التمييز والعنصرية والطائفية. وفوق كل شيء «العدالة الاجتماعية» التي هي عقار مفيد ضد الفساد، بناء حاضر ومستقبل البلاد والشباب. النظر بإيجابية للإصلاحات المقبلة ودعمها، والمساهمة في تعزيز نتائجها. والإيمان بالإصلاح الذي يأخذ الناس إلى أحلامهم، لا العيش في مخلفات الماضي المؤلم البائس. هكذا هي المعادلة الدقيقة. هكذا تبنى الدول. فمرحى للربيع الجنوب إفريقي. ومرة أخيرة: إنها «احتفالية!».