تتعلق نفس الإنسان العربي بأدبه (شعراً ونثراً) وبالشعر خاصة إيما ارتباط وأخص بها شعر الموروثات الشعبية والحكايات خاصة التي تمس حياة الناس البسطاء وما يلاقيه من شظف العيش والواقع المعاشي وحكايات العشق البريئة الساذجة، فكانت هذه الصور أغلبها تنقل لنا عبر الشعر حتى إننا نرى بعضها أصبح (كالأمثال الشعبية) يتناقلها الناس فيما بينهم، فغدت هذه الأشعار كأنها الوقود الذي يطعم الناس فيها أحاديهم ومسامراتهم في مجالسهم الخاصة والعامة.. حتى ظهر لنا خصوصية لكل مصر تتعلق بتلك (الموروث الشعرية الشعبية) وظهرت أنواع من الشعر التي غالباً ما يميز أسلوب أهل منطقة وما يميز أهل بل ما، وأدب الجزيرة العربية يزخر بكثير من هذه الأنواع الأبية مثل الزهيريات والكسرات وآل أبو ذيات والمربعات والأهازيج التي غالباً ما يكون لها وقع خاص في نفوس الناس وخاصة الطبقة الفقيرة والناس البسطاء وذلك لبراءتها وبساطتها وعفويتها في الظهور من فم القائل وبدهيتها وسرعة حضورها لمن أراد أن يستخدمها للموقف. ومن هذا النوع من الشعر شعر يسمى ب (الدارميات) وهذا الشعر نوع من أنواع الشعر الذي يتداوله الناس فيما بينهم وانتشر بسرعة في العراق وكان له وقع كبير بين الناس حتى أنك لا تجد عراقياً (صغيراً أو كبيراً) (جاهلاً أو متعلماً) إلا وتجده يقول أو يحفظ بل (لده من مخزون الدارميات الشيء الكثير) وهو شعر ممتع وبسيط جداً وفيه كثير من المعاني والصور البلاغية الرائعة ويقطر عذوبة وله من الحلاوة لدى السامع والمتلقي ما يتعلق به بشدة بل بشغف حب السامع إليه عند سماعه.. وهو عبارة عن بيت واحد شطر وعجز عندما تقرأه وكأنك تقرأ قصيدة كاملة. فتساءلت مع نفسي يوما عندما سمعت عن هذا الشعر وحلاوته (وأنا لست باحثاً أو مهتماً بالأدب) هل هذا الشعر في الأدب العربي أصل أو تاريخ أو هل قاله أحد من أهل الأدب القديم أو الحديث السابقين (فصيحاً).. فوجدت كتاباً صغيراً ممزقاً بلا جلدة أو عنوان ولا اسم المطبعة ولا سنة طبع (لأنه ممزق) بدأ بالإهداء ثم بدأ يتحدث من دون مقدمة عن شعر (الدارميات) فكأنني وقعت على علاج للاضطراب النفسي الذي انتابني عند سماع هذه (الكلام القصير الجميل). واسم المؤلف أو الكاتب (ناصر محسن الساري). بدأ بتعريف (هذا النوع من الشعر قائلاً): أقصر قصيدة في ديوان (الشعر الشعبي العربي) يحمل في مضمونه قصيدة طويلة، لغزارة معناه فهو يعتمد على العمق في أبعاده.. ويطلق عليه البعض أيضاً (غزل البنات) لكثرة تداوله بين النساء وهو في الحقيقة يحمل مضمون قصيدة كاملة في شطر أو شطرين لا أكثر. والشعر الدارمي جاء نسبة إلى الشاعر العربي القديم (مسكين الدرامي). ومما ينسب إيه من شعر الدارمي قوله: أذكروني مثل ذكراي لكم دب ذكرى قربت من نزحا وأذكروا صبا إذا اشتاق لكم شرب الدمع وعاف القدحا وللدارمي الذي كانت له علاقة وثيقة ببحور الشعر الستة عشر التي انحسر ظله عن الساحة الشعرية ويقول أن له أمثلة في شعر اللغة الأم: يا قلبي ما للشو يكوي سناه هل تدري في الأحشاء ماذا جناه.. ومثاله أيضاً: أحفظ عهد الشوق أن صنت عهدي فيا أعز الناس قد طال وجدي مكان ظهوره: ويقول المؤلف عن مكان ظهور هذا الشعر، ظهر في قرى وأرياف (محافظة ميسان) جنوب العراق وانتشر بسرعة في باقي المدن الجنوبية العراقية وكأنهم تخصصوا به. وهو النمط الشعري المتداول بين العشاق لقصره وجزالة تركيبته الشعرية، ويكاد يكون الحوار التقليدي بين الناس.. ومساجلة شعرية بين الحبيب وحبيبته أو بين الصديق وصديق وبين عاتب ومعاتب. أغراضه الشعرية: وأهم أغراضه الشعرية هو فيما يتعلق بالعشق وما يلاقيه المحبين من الوجد واللوعة والعواطف الجريحة والنظر للأشواق بشيء من التفاؤل والأمل تمني التقاري والحب السامي العفيف والشكوى من قسوة الظروف التي كانت سائدة في العراق. ومجموعة أخرى تركزت على النصيحة والعمل الصالح ومد جسور المحبة بين الناس وطاعة الخالق وبر الوالدين. والآن نقف مع صور من هذا النوع من الشعر العذب ولا نجد بداً من الابتداء بشعر الحب والعشق والهيام، فنبدأ بشاعر يفرق بين عشق اليوم وعشق الأمس قائلاً: عشق اليوم: (يا دنيا حب اليوم ما بيه ضريبة اليهوه أشوقت ماراد يمشي الحبيبة) عشق الأمس: (جا بعد شتريدون ياضوى عيوني لو أمس ولقي وياي جا قطعوني) وهنا رأي الشاعر شاباً يافعاً (يصفر لحبيبته) فقال له لمن تصوفر أيها الشاب فقال لحبيبتي. فرد عليه الشاعر: صوفر وخلي الناس تسمع سفيرك مطيرجي تالي الليل وإنفقد طيرك وبيت خر يقول له: صوفر أشكد ما تريد يا حارس الليل ولو ما أجاك أهواك أصعد على التيل* وامرأة تتغزل بعشيقها وتصفه بالحسن المطلق بل هو بديل القمر قالة: بالدنيا ما هوجود ولفي بجماله القمر من يغيب يطلع بداله وأخرى: محبوبي لو شفتيه ما ظن نصبرين خطابة كل الناس أنتي التودين ومن شعر الغربة: بالغربة هزني الشوق لحبابي والبيت وصار الحنين جناح وبلهفة رديت ولمفارق آخر: كلش طويل الليل بالآه أحسبه مثل العليل أقضيه حسبة على حسبة ومن شعر العواطف الإنسانية: الما يحب ملقاك منه أغسل إيديك ويقطع عليك بحور قلب اليريدك ويقول أحدهم بالكرم: للرايح وللراد فاتح مضيفي وعيوني تحجي وياه لو سكت ضيفي وآخر: عمده أوج النار لو جلجل الليل تقصد مضيفي بشوق لو تاهت الخيل وحفظ السر يتمنى القائل أن يدفع روحه ويفضل الموت ولا يفشي سراً: حد سيفك البتار خل يقطف الروح حتى المنية تهون وبسري ما أبوح وفي شعر النصيحة: لا تنهر الغلطان وبالك تفضحه بينه وبطيب أقعد ونصحه وهنا أم تخاطب ولدها وكيف تريده أن يكون: ما هو ابني الخواف لو ظلم جاسه وتتبره منه أثداي لو ظلم جاسه ومن الفكاهيات نستمع تصف إحداهن عدد أطفالها قائله: حبله وأهز (كاروك)* وتسعة اليلعبون ما أبل من هواي عند اليفهمن وآخر: ظل أبكي ما أخليك ترضع حليبي أنت وأبوك تروح فدوه الحبيبي إضافة إلى هذه الصور والأغراض الشعرية هناك الكثير والكثير التي لا يسع لها المجال.. لكن لو سمعت المساجلات والحوارات الشعربية الرائعة التي لا يخلو منها أي مجلس شعري في جنوب العراق. هوامش" * عمود الكهرباء * سرير الطفل الرضيع