وما الذي يجعل من بعض الأصوات موسيقى؟ هذه الأسئلة وغيرها هي مما يشغل اهتمام «علماء الأدب» منذ عقود. من المؤكد أن هذه الأسئلة كانت مثارة منذ أفلاطون وسقراط والجاحظ والجرجاني وابن سينا، ولكنها صارت قضية جوهرية مع مطالع القرن العشرين. وقد كان لعلماء وأدباء روسيا مثل جاكبسون وتروبتسكوي وموكاروفسكي وغيرهم ممن يجمعهم اسم (الشكلانيين الروس) دور بارز في هذا المجال، ثم اقتفى أثرهم علماء وأدباء من أقطار وثقافات أخرى. والسؤال في صياغته المعهودة هو: ما الذي يجعل من الأدب أدباً؟ وهو سؤال عن «أدبية» أو «شعرية» الكلام. والسؤال هذا برأيي سيظل مفتوحا ولن ينغلق بجواب ما. إنه أشبه ببحث في ميتافيزيقا الأدب أو الفن الجميل. فهو مما تحار فيه العقول؛ فكيف لكلام هو متوالية من الأصوات الصادرة عن جهاز النطق أن يكون خالباً للألباب، مثيرا للحس الجمالي؟ كيف لأصوات تصدرها الآلة الموسيقية أن تسحر السامعين بصورة لا يستطيعها أي جهاز آخر؟ مما أجاب به بعض علماء الأدب والفن هو أن الفن الجميل بعامة والفن اللغوي على وجه الخصوص يستطيع أن يشد انتباهنا بكونه خروجا عن المألوف ونقضاً للألفة والروتين. إن الكلام العادي لا يطرب، ولكن الشعر بسبب طرافة معناه وغرابة صوره ورقة موسيقاه وأوزانه التي يجري عليها يجعلنا ننصت إلى شيء جديد وغير مألوف، إلى كلام آخر غير ما نسمعه ليل نهار. هذا الخروج هو ضرب من التجربة المثيرة التي تكون مصحوبة بلذة لا مثيل لها وانجذاب روحي لا حد له. أعتقد أن هذا التفسير من أروع ما قدمته النظرية الأدبية الحديثة. فالميزة التي يمتاز بها الأدب، بل والتي لا يكون أدباً بدونها، هي كونه مخالفاً ومعارضا للمألوف والعادي. فالعادي لا يثيرنا ولا يستحق منا إلا ما يتعلق بمعاشنا وحياتنا العملية. ولو استحضرنا الآن أية قصيدة شعرية قديمة أو حديثة، فصحى أو عامية، من تلك القصائد القادرة على استثارة أكبر قدر ممكن من القرائح المتذوقة للفن، ثم قارنا بينها وبين الكلام العادي لرأينا أن أظهر فرقٍ هو مخالفتها لهذا الكلام وعدم سريانها على ما يسري عليه. فنحن في كلامنا العادي لا نبتكر أساليب جديدة في الكلام إلا ما ندر، وإنما نستخدم التعابير والأساليب والصيغ وأحيانا الجمل التي يستخدمها أغلب أعضاء المجتمع. ولكننا في الشعر نصادف أساليب وطرائق في التعبير جديدة ورائعة. ومن المثير أن نعرف أن بعضا من الأساليب التي أبدعها الشعراء على مر العصور تتسرب بطريقة لا شعورية إلى اللغة الاجتماعية العادية، وهنا تحديداً تفقد الكلمة الشعرية أو الأسلوب الشعري قيمته الإبداعية، ويبقى مشتغلا فقط كنوع من الحذق والبلاغة. وبما أن الشعر ينهض في قوامه وجوهره الداخلي على المجاز (الذي هو بتعبير صريح مخالفة الكلام العادي والمعاني المألوفة) فإننا نقدر أن نجعل من انتشار العبارات المجازية في لغة ما دليلا على وفرة الشعراء في هذه اللغة بل وعلى حب وتقدير أهلها للشعر. إن الشاعر بطبيعته سريع الملل، إنه يأنف من الرتابة اليومية، ولذا فهو يبتكر الجديد حينما يقوم الناس باستعارة عبارات الشعراء. وقد أصاب في ذلك، فلو أعاد على الناس ما ألفوه وخبروه لما كان شاعراً. إن الإشكالية التي يدخلنا إليها سؤال «الأدب» وجوابه أيضا هو أن الفن في اللحظة التي يولد فيها ليس فناً! نحن نعرف من خلال دراستنا لتاريخ الفن والأدب أن هناك ما يسمى ب(الطليعة) أو الرواد. في لحظة ما قبل الإبداع يكون المألوف وتقليد النماذج السابقة هو السائد، بل وهو وهنا المشكلة المعيار الذي به تقاس شاعرية الشاعر وأدبية الأديب. إنه النموذج. فالنموذج هو ما يهتدي به النقاد في تمييز الغث من السمين، ولكن النموذج بالمقابل يحيلنا مباشرة إلى مفهوم «التقليد» وهو نقيض الإبداع. فلو قلنا إن ما هو «شعري» وأدبي هو ما يستجيب للذائقة الجماهيرية التي نشأت في ظلال مجموعة من النماذج، فكأننا نقول إن «الشعري» هو التقليدي! وللإيضاح أكثر أقول: في اللحظة التي يخرج فيها شاعر مجدد لا يتم الاعتراف به لأنه ببساطة غير تقليدي، ولكن متى يتم الاعتراف به؟ حينما يصبح إبداعه تقليدياً!؛ أي نموذجا يحتذى! وهنا نعود إلى المشكلة ذاتها. فالأدب بوصفه خروجا عن المألوف الشعري وغير الشعري لا يثير القرائح الشعرية إلا بعد أن يصبح «تقليداً شعريا». إن الشعر والفن لا يستثيرنا إلا بعد أن يتخطى المرحلة التي بفضلها صار «إبداعا»، وهي مرحلة الخروج عن السائد. إنني لا أتحدث عن الإبداع الجزئي الطفيف بل الإبداع الكلي الذي يكون انتقالا جذريا من مرحلة إلى أخرى. ففي الشعر مثلا يعتبر أحمد شوقي مبدعا، ولكن على نحو جزئي، بخلاف بدر شاكر السياب الذي أبدع مع رفاقه نمطا أو نموذجا شعريا مختلفا تماما عن كل ما سلف. متى أصبح بدر شاكر السياب شاعراً مبدعا؟ بالتأكيد لقد كان ذلك في اللحظة التي أصبح فيها السياب نفسه نموذجاً يحتذى ومصدرا أساسيا للتقليد. هنا سنحت الفرصة لتذوق شعره كإبداع أصيل، ولكن متى؟ بعد أن صارت العبارات والأساليب والمعاني الشعرية التي أبدعها شيئا مطروقا باستمرار. ماذا لو لم يصبح السياب نموذجا تقليديا؟ ماذا لو تم تجاهله (أي: عدم تقليده!!)؟ طبعا لن يكون ذلك الشاعر الطليعي المبدع، بل شخص مجهول لا يعرفه إلا ذووه وأصدقاؤه المقربون. إذن هل نقول إن الخروج عن السائد ليس هو ما يشكل جوهر الإبداع بل الطريق إليه؟ لن أقطع بأي جواب هنا، وإنما سأكتفي بإثارة التساؤلات. إن الأدب والفن في اللحظة التي يولد فيها لا يكون فناً أو أدباً، وبالطبع فهو في اللحظة السابقة لم يكن موجودا، وفي اللحظة التالية لم يعد شيئا جديدا بل معادا ومكروراً. والنموذج في كل فن وعلم هو المعاد والمكرور الذي اتفقت عليه العقول وقبلت به القرائح. وحسبنا أن نختم بالقول: إن ما يجعل المبدع مبدعا هم مقلدوه!! للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة