يخبو وهج المصطلحات، وما تحمله من مفاهيم حين تظل مرهونة بما كان في الزمن الماضي من أحداث ووقائع، المصطلحات والمفاهيم تماما كمآثر الآباء والأجداد - مهما كانت - تذبل ألفاظها، وتغيب دهشتها، إنها دوما تحتاج إلى فعل جديد من الأجيال حتى تنبعث في تلك المصطلحات ومفاهيمها الأنوار من جديد، وتستحوذ برنين المعنى الحادث على الأفهام والعقول، تلك عندي - وربما عندكم - سنة المصطلحات والمفاهيم، يُغري الإنسان بها من جديد ما يُضخُّ في جسدها من معنى، فالإنسان - ومنه أنا وأنت - يأسره الحدث القائم، وتغيب عنه الأحداث الماضية، وخير الناس لدينه وآبائه وأجداده ومآثرهما من يخلق المعاني الجديدة، ويرمي بها في بركة تلك المصطلحات والمفاهيم، إنه بهذا الحدث وذاك يُذكر بماضيه تذكيرا يزرع في النفوس الإكبار لذلك الماضي ورجاله، هكذا فليكن برنا بديننا ورجاله الماضين ومآثرهم، إننا بصناعة الأحداث والوقائع نُجبر العالمين على الوقوف أمام اللوحة التي اجتمع رسّامونا من ساسة وعلماء ومفكرين ومثقفين على تشكيلها وتجديد ألوانها، هكذا يفرح بنا ماضينا، وليس بتكراره وتكرار أحداثه التي عايشها الناس قبل مئات السنين.. إنّ إنسان اليوم يؤمن بالحدث كالإنسان القديم، فهل نستطيع طرح أحداث جديدة في السوق العالمي المفتوح الذي أضحى فيه الحدث يُولد على مرأى ومسمع من جميع الناس تقريبا؟ إننا اليوم في عصر أصبحت الأمة والإنسان مرهونين بأحداثه التي ألقى بها في يمّ الحياة، وليس بكلامهما وادعاءاتهما. وإذا كان الإنسان مثلي غير قادر على صناعة الأحداث فليس بمعذور أن تذهب الأحداث والوقائع ويظل صامتا أمامها، يرى فيها تجديد الدماء في ذلك الماضي، يراها تُعيد للذاكرة مبادئ أسنت في عقول الناس، يراها تُوقظ فيهم معاني - لطول الزمان - أصبحت أشباحا تتمايل لا ظل لها، يرى غيره يُحوّل بأحداثه تلك الأشباح إلى أجساد لها ظلال ومعان، ثم ينزوي ولا يشارك - وهو القادر - في بناء قصيدة ذهنية عقلية، يكون فيها مكافأة لصانع تلك الأحداث، مكافأة لأبي متعب صانع الأحداث التي تُذكر بمبادئ الإسلام ومآثر الآباء.. إن الرجل بأحداثه، فهنيئا لك - أيها الوالد الملك - بأحداثك، وأحرفي - على تواضعها - تبارك لك هذه الأحداث الاستثنائية في عصرك، تلك الأحداث التي التفتت إليها الناس، قريبين وبعيدين، ولم يكن ذلكم الالتفات لولا أن أحداثك كانت آسرة، وكانت على مستوى الحدث العالمي؛ لأنها جاءت حلا لإعضالات قائمة حاضرة. استهلّ أبو متعب أحداثه بدعوة الناس إلى الحوار، فأدرك المجتمع أنّ القائد مؤمن بالتنوع، وساعٍ بما يطرحه من مشاريع إلى استبقائه، يدفعه إلى ذلك أنّ الدين أقرّ هذا التنوع، ورضي به، وشهد به تأريخه، ويدعوه إليه هاجس إعادة فكرة التوحيد والوحدة من جديد في ظل متغيرات ثقافية وفكرية بدا من ذويها التوجه إلى التخندق داخل أطر ضيقة، تزيد من الشتات عبر ما تُكِنّه من اختلاف فكري، وتباين في النظرة إلى الواقع والتأريخ، فلم يكن لهذا التشرذم الذي أطلّ برأسه، وبدأت تقوده الفكرة المتنوعة والثقافة المختلفة من حل سوى الحوار، الحوار بين أطياف بدا من محيّاها أنّ المستقبل القريب سيكون على خلاف الماضي القريب، إنها أطياف - مع كثير احترامي لها - لم يكن جلّ همها في الوحدة والوئام، كانت تصطرع على قيادة الفكرة والسيادة في هذا المجتمع، فما كان لأب كأبي متعب إلا أنْ يُطفئ فتيل هذا الشتات البادي بالحوار وثقافته، فكان له ما أراد، فبدا المجتمع في صناعة ثقافة جديدة، تتعدد فيها الرؤى، وتختلف فيها الآراء، هكذا كانت صناعة أحداث التوحيد من جديد حين لمع في الأفق ما يُكدرها، ويخلط الأوراق عليها.. حقا لقد أصاب الملك في الاختيار والتوقيت، فبالحوار استأنفت الدولة توحيد وجهة الناس للبناء من جديد بعيدا عن الانتماءات الضيقة، والتحزبات المتبرّمة. إنّ التداعي إلى الحوار في الداخل إعلانٌ لإنسان جديد بدأ تكوّنه، إنسانٍ حر ألقت الدولة في يديه أعنّة الثقة، وهمست في أذنه: أن انطلق، فقد جُزتَ اختبار الثقة، هي صورة تُذكر بأم الطائر وأبيه حين يأذنان له بالتحليق عاليا، وعلى شواهق الجبال، إنها القيادة حين ترى الإنسان قد بلغ رشده، واستوى عقله على سوقه، ولم يُعد يُخاف عليه من صروف الزمان وتقلبات الأحوال، فما يقال بعدُ لمن ظل يرتاب من هذا الإنسان، ويُلقي على عينيه الغِشاء أن يرى ما حوله، ويُبصر ما بين يديه! ومن الثقة بالمواطن وقوته ورجاحة عقله خرج شكل جديد من الحوار، إنه ذلك الحوار مع أمم الأرض، حوار تحدوه الفكرة التي دعت إليه في الداخل، إنها الوئام والالتمام بين أمم البسيطة، حوار يُري العالم أنّ ثقافة السّلم والمسالمة والمهادنة هي الواجهة للإسلام، إنها واجهة قارة، لا يُغيّرها تبدل الرياح، ولا تغير موازين القوى، وليس كما يُشيع بعض المسلمين عن الإسلام، أولئك الإخوان الذين صاغت عقولهم بعض وقائع التأريخ، وليس وقائع النص، حوار يُظهر المواطن مملوءاً بالثقة من نفسه وحاضره وماضيه، حوار يُظهرنا أمة قادرة على التحرك - بلا خوف ولا وجل - في عالم تملؤه الاختلافات والتنوعات، عالمٍ لم يعد - مع ما فيه - يُرهبنا ويُخيفنا من فَقْدِ ذاكرتنا، ومن أن نقف على أقدامنا في مواجهة ثقافته وحضارته ورجاله، إنّ الحوار وُلِد معه إنسان جديد، وسيولد معه لنا عصر - إن شاء الله - حديث وقشيب، نخيط فيه لنا أثوابا جديدة، وعباءات مختلفة، تضعنا على المسار الذي كنا نبحث عنه؛ لكن عنه عاقتنا العوائق، وصدّتنا الصوادف. ومن أحداث التوحيد التي جادت بها قريحة القائد بعد الحوار، وضمنت التنوع الذي يُذكي الحوار ويقويه ما سمعناه وقرأناه قبل أيام من العزم على إشراك المرأة في مجلس الشورى والمجالس البلدية، فقد كان هذا القرار الشجاع حلا لنوازل في المرأة، سمعنا بعضها وساءتنا، لم يكن لها حل إلا أن تكون المرأة جزءا من صناع ثقافة الحوار والتنوع وأربابهما، وهكذا عاد القائد من جديد إلى صناعته المحبوبة صناعة أحداث التوحيد، فأضحت المرأة والرجل صفا واحدا في مواجهة ما يمس حياة تلك وذاك، وهكذا بدأ إغلاق ملف الجور الذي لحق بالمرأة، وكاد أنْ يبعث الشتات بين الجنسين والشقاق. ولن أقول: وختم أحداثه بهذا الدخول للمرأة، هذا الحدث التوحيدي بين نصفي المجتمع في السعي إلى تحقيق أهداف جديدة، وتلمس آفاق بعيدة لنساء هذا المجتمع ورجاله، لن أقول ذلك؛ لأنني أنتظر من أبي متعب أحداثاً أخر، فليس هذا فقط ما يقدر عليه أمثاله، فماضي أحداثه يدل على مستقبلها، وأنا وأنت وهو وهي في انتظار مفاجآت أبي متعب، وقريبا سنشاهد حلقة من مسلسل أحداثه، فأترككم إلى أن تحين الفرصة القادمة القريبة للحديث من جديد عن أحداث التوحيد بين أفراد المجتمع وطبقاته وأطيافه وبين هذه المنظومة المجتمعية ومجتمعات أخرى قريبة وبعيدة، فقد عوّدنا على ذلك، وألزمنا الانتظار له، فما جديد أحداثك - أيها الوالد الملك -؟