لاحظتُ خلال استماعي لأمسية شعرية أُقيمت للشيخ الدكتور عايض القرني في دولة الكويت قبل سنوات، بالاشتراك مع ناصر الزهراني وعوّاد برد، بأن الشيخ قام باقتراف سرقة (صغيرة) ويُمكن أن أقول بأنها (ذكية) إلى حد ما، ذلك أن الشاعر الضحية شاعرٌ مغمور ومُقل وتوفي قبل أكثر من تسعة قرون من الزمن؛ وقد تأكّدت بأنها (سرقة)، ولا يجوز وصفها بأي وصف آخر بالرجوع مؤخراً إلى ديوان الشيخ عايض (قصة الطموح) الصادر في طبعته الأولى عن دار ابن حزم ببيروت في 2001م. فقد نَشر في ذلك الديوان قصيدة سمّاها (لّذة المُعاناة) كان قد ذكر في تقديمه لها في الأمسية التي أشرنا إليها قبل قليل بأنها تُصور ثلاث وقفات عاشها في حياته، ويقول في مطلعها: يا رب أنت الواحدُ القهارُ أنتَ المُجيرُ وليس منك يُجارُ ويأتي في سياق هذه القصيدة التي تتألف من 23 بيتاً، وتحديداً الأبيات 16 و17 و18 حديث الشيخ عن أحد المواقف الثلاثة وهو تذكره للخالق عز وجل حين آلمه ضرسه "الذي خلعه الطبيب فكاد يخلع رأسه" بحسب عبارته في تلك الأمسية، وتقول الأبيات: ولقد ذكرتُك والطبيبُ مُعبس والجرحُ منغمسٌ به المسبارُ وأديمُ وجهي قد فراهُ حديدُهُ ويمينُهُ خوفاً عليّ يسارُ فسررتُ من ذكراكَ بعد مصائبٍ ترتج من هوامها الأقطار عايض القرني وهذه الأبيات الثلاثة التي تُصور موقف الشيخ مع الطبيب هي نفسها تقريباً الأبيات التي أوردها شهاب الدين أحمد بن جحلة (ت 776ه) في باب (طيب ذكر الحبيب) من مؤلَّفه (ديوان الصبابة) منسوبةً إلى الشاعر الشريف البياضي (ت 468ه)، وترد أبيات البياضي في صفحة 222 من طبعة دار ومكتبة الهلال، وكذلك في الصفحة رقم 263 من طبعة منشأة المعارف، ويقول فيها: ولقد ذكرتك والطبيب مُعبسٌ والجرح منغمسٌ به المسبارُ وأديم وجهي قد فراه حديده ويمينه حذراً عليَّ يسار فشغلتني عما لقيت وإنه لتضيق منهُ برحبها الأقطارُ فكما نرى لم يستطع الشيخ التعبير عن موقف ألم خلع ضرسه إلا بأخذ أبيات البياضي بنصها ودون أي إشارة تدل على أن الأبيات لغيره، مُكتفياً بتغيير عقيم استبدل فيه كلمة (حذراً) بكلمة أقل دقة وهي (خوفاً) في البيت الثاني .. وتحوير البيت الثالث دون أي إضافة للمعنى.! وقد أثارت مناقشتي لهذه السرقة الصغيرة - التي لا أظن بأنني أول من اطلع عليها- استياء معظم الأشخاص الذين عرضتها عليهم في محاولة لإيجاد تفسيرٍ لما قام به الشيخ؛ واستياؤهم لم يكن مما فعله بقدر ما كان استياءً مني لأنني أشك مجرد شك في إمكانية قيام شخص كالشيخ عايض القرني باقتراف سرقة كهذه في شعره، وهو الرجل الذي تتعدد مواهبه الأدبية لتتجاوز كتابة الشعر الفصيح والنبطي لكتابة الأدب الساخر والمقامات والمقالات وغيرها من فنون الكتابة الحيّة والميتة من التي نعرفها أو لا نعرفها..! من بين الردود المُستاءة كان هناك رد واحد يحمل مُحاولة قد تبدو شكلياً مُقنعة لتبرير حضور أبيات البياضي في قصيدة القرني، ويذكر صاحبه بأن الشيخ من "أصحاب الحفظ العجيب .. ولديه ذاكرة غير طبيعية في الحفظ"، ومن الممكن أن "يكتب أشياء يحسبها ضمناً من تأليفه وهي من محفوظاته في الذاكرة"، وأعتقد أن قبول مثل هذا التبرير يجعل باب السرقة موارباً أو مُشرعاً على مصراعيه للمستشعرين وللصوص الشعر من الباحثين عن (ضالة الشعر) بحسب عبارة الفرزدق المشهورة؛ مع أن الحقيقة التي لا جدال فيها تقول بأن الشخص الذي يمتلك ذاكرة قوية وقدرة كبيرة على حفظ قصيدة كاملة أو أبيات لشخصٍ ما لن يعجز عن حفظ اسم مُبدعها أو قائلها أو - في أسوأ الأحوال - تذكُر أنها لشخص آخر .. إلا إذا لم يكن راغباً في ذلك..! ربما لا يرى البعض في سرقة أبيات قليلة لشاعر مغمور توفي قبل تسعة قرون ونصف القرن أي أهمية تستدعي عناء الكتابة أو اتهام شخص في مقام ومكانة الشيخ عايض القرني، ولكن الأمر المهم في نظري هو ضرورة الإشارة إلى أن الشخص المشهور دائماً ما يجد عند اكتشاف سرقته - بغض النظر عن حجم تلك السرقة ونوعيتها - عشرات، بل مئات الأشخاص الذين يستميتون في الدفاع عنه وتبرير سرقته ومنحه (صك) البراءة خلافاً للشخص الذي لا يتمتع بحصانة الشهرة، وقد لفت هذا الأمر الدكتور كاظم جهاد في كتابه (أدونيس مُنتحلاً) الذي أشار فيه إلى أن المناقشين للشاعر المنصف الوهايبي في رسالته العلمية حول الشاعر السوري المعروف علي أحمد سعيد (أدونيس) لاحظوا قيامه بالتعسف لإدخال عدد من سرقات الأخير في باب (التناص)، كما لاحظ هو حرج الباحث الشديد أمام تلك السرقات الأدونيسية و(تلويحه) إليها دون أن يجرؤ على تسميتها بالانتحال أو السرقة ..!