بحت الأصوات وانهمرت الأقلام وهي تصيح بالعلماء والفقهاء كنذير عريان أن يمنحوا الفقه روحا جديدة ونفسا جديدا، يفتح للأمة مساحات من الحراك الاجتماعي والفكري تستطيع من خلالها أن تواجه أسئلة الراهن وتعقيدات الحاضر. لم يعد النوم في أقبية التنظيرات العتيقة ملائما لعصر العولمة والإنترنت وثورة الإتصالات، هذا أحد وجهي عملة تخلف الفقه الإسلامي وعلى وجه العملة الآخر عامل جديد يتمثل في «تسييس الفقه» وجعله مطية حزبية تركب لبلوغ أهداف سياسية لا تخضع للدين بقدر ما تجعله جسرا آمناً لتلك الأهداف، وثالثة أخرى هي سيطرة «النصوصية المجتزأة» على خطاب جيل من عناصر التيار الديني. على هذه الخلفية لفت أحد الأصدقاء نظري لحوار جميل أجراه الزميل والصديق مشاري الذايدي في العدد 9665 نشرته جريدة الشرق الأوسط في يوم الأحد 7 ربيع الثانى 1426 ه الموافق 15 مايو 2005، مع الشيخ عبدالمحسن العبيكان المستشار بوزارة العدل السعودية، وأحد رموز التيار الديني التقليدي والذي اشتهر إبان أزمة الخليج الثانية والغزو العراقي للكويت بانحيازه إلى مربع الإسلام السياسي الحزبي، واتخذ حينها مواقف صنفت على أنها معارضة سياسيا للنظام القائم، وشكل ثقلاً كبيرا في تلك الحركة نظرا لأنه لم يكن فقط من «الدعاة»، كما هي التسمية المحدثة لنوع جديد من الوعاظ الدينيين بدأ يهتم آنذاك بالسياسية والشأن العام وعلا صيتهم في تلك الفترة، بل كان قبل ذلك وبعده فقيها شرعيا يشار إليه بالبنان وتشي مؤلفاته بتعمق في الفقه الإسلامي وتحديدا في شقه الحنبلي. وقد برز اسمه مجددا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وظهور حركات العنف الديني هناك وقيامها بعمليات عنفية وإرهابية حصدت من العراقيين أكثر مما أصابت من الأمريكيين تحت ذرائع شتى تتكئ في مجملها على فقه أعوج مستورد بتعسف من التراث الفقهي وموظف بتكلف لإباحة العمليات الإرهابية في العراق وغيره من بلدان العالم الإسلامي، وتقف على رأس تلك الذرائع الفقهية المجترة تاريخيا «مسألة التترس» التي توجد في كثير من كتب الفقه وجلبت اليوم عبر بوابة «ابن تيمية» رحمه الله، وهي المسألة التي عبثا حاول الزرقاوي أن يجعلها ركيزة أساسية في تبرير جرائمه. مخر الحوار الشائق عباب المسائل الشائكة وأبحرت سفنه بين دواماتها ومخاطرها، ولم تكن تنقص الشيخ العبيكان الجرأة ليتحدث بكل صراحة وشفافية عن عدد من القضايا التي تثير الإشكالات وتتباين حولها المواقف في المشهد الديني السعودي والخليجي، من النظام القضائي وأهمية تطويره بما يتلائم مع المرحلة ا لمتطورة التي يمر بها العالم والسعودية في وسطه، وما يتعلق بأعداد القضاة وتقنين القضاء وأخلاقيات القضاة في التعامل مع المتقاضين، وهي مسائل شديدة الحساسية وقد نفخت كلمات العبيكان كثيرا من الأمل في إصلاحها وإن كانت أغلب إجاباته تحيل للمستقبل!. كما تحدث العبيكان عما شهدته المنطقة العربية والخليج العربي بالذات من اتجاه ساد على شباب ما يسمى ب«الصحوة الإسلامية» قبيل صبيحة حرب الخليج الثانية وبعدها من اتجاه عارم نحو علم الحديث بتنوعاته من «مصطلح» و«متون» و«أسانيد» و«رجال» و«علل» وغيرها، وانصراف بالمقابل عن علوم «الفقه»، وقد انتقد العبيكان ذلك، وقال إن «هؤلاء الذين نتحدث عنهم هنا، وعلى حساب الفقه، انشغلوا بالجرح والتعديل في رجال الاسناد، ثم لم يخرجوا بنتائج مثمرة.. فلا فائدة من حفظ الأحاديث من دون فقه بها، «نقلة» النصوص كثر، ولكن الفقهاء النافذين ندرة، والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. ولم يقل: يحفظه النصوص!». وصدق العبيكان فعلوم الفقه ومدارسه تمنح الناظر فيها مساحة من «النسبية» واعتبار «الظن» كنعصر أساس في الشريعة الإسلامية، نظرا لإدمان متابعة الخلافات ومحاولة المقارنة مع ملاحظة كيف يتنازع الفقهاء الأدلة والقواعد والأصول، بخلاف علم الحديث والمصطلح الذي انتشر في تلك الفترة والذي يغفل القواعد الفقهية وأصول الفقه وأدوات العلوم الشرعية المعتبرة، فيمنح بذلك دارسه مساحة من «اليقين الزائف» وتاليا المواقف اليقينية الحادّة والإقصائية التي صبغت تلك الفترة بصبغتها وتجلت في مواقف عناصر التيار الديني المسيّس تجاه عدد من القضايا السياسية الكبرى كالغزو العراقي، والاجتماعية الصغرى كبعض مسائل الفقه الخلافية كاللحية وإسبال الثوب، وهي مرحلة جديرة بالدراسة وتركيز الضوء عليها ذلك أن «النصوصية المجتزأة» وغير المنضبطة تسببت بكثير من البلايا على طول التاريخ الإسلامي وبان أثرها وقدرتها على التدمير في حركات العنف الديني المعاصرة بدءا من حركة جهيمان وانتهاء بتنظيم القاعدة وجماعات العنف الإسلامية. يسير الحوار الشفّاف بجمالية متصاعدة حين يتحدث العبيكان «الفقيه التقليدي» وأنا أضغط هنا على كلمتي الفقيه والتقليدي لأنهما تمنحان الناظر قدرة على التمييز بين هذا النوع من الخطاب الديني الذي يطرحه العبيكان اليوم وبين خطاب آخر يمثله رموز الإسلام السياسي وحركات العنف الديني، يتحدث العبيكان عما يسمى ب«الصحوة الإسلامية» و«رموزها» فيقول «رأيي في مسألة «الصحوة» انها بدأت قبل حرب الخليج الثانية، لكنها كانت صحوة بريئة، واعتقد ان من يسمون الآن برموز الصحوة، انما انتجتهم الصحوة، وليسوا هم من انتجها! وأعني بالصحوة هنا غير المسيسة، والتي بدأت في المجتمع السعودي بأشياء بسيطة ابرزها كثرة الاستماع إلى اشرطة القران الكريم، في السيارات أو في البيوت... لم يكن هناك أي كلام سياسي». حسنا، لا يمكن المرور على هذا المقطع دون إبراز كلمتين غاية في الأهمية في السياق الذي أتحدث عنه هنا، الأولى «وأعني بالصحوة هنا غير المسيّسة» والثانية «لم يكن هناك أي كلام سياسي»، وهنا مربط الفرس «التدين» كظاهرة إنسانية جميل ويمنح النفس صفاء وتسامحا، ولكن دون أن يكون «مسيسا» وقوده «كلام سياسي» تماما كما يفعل رموز الإسلام السياسي في تعاملهم مع كل من وما حولهم ممن لا تسير قاطرته على القضبان التي يرسمون. وبعدما مرّ العبيكان بكشّافاته الصريحة والشفافة على رموز الإسلام السياسي في السعودية والخليج، وهاجمهم بشكل مباشر وقوي، عاد ليتذكر أنه في فترة سابقة كان منخرطا معهم في «مشاريع مشتركة» صاغها الإسلام السياسي ودخل فيها العبيكان وغيره، ولكنه لم يتجاوز ذلك دون أن يقول بجرأة أدبية عالية تؤذي صراحتها من لم يفعلوا مثله ممن يسمون ب«الدعاة» قائلا «لماذا لا يقرون بأغلاطهم السابقة ؟! أنا كنت مخطئا... لماذا لا يعترفون مثلي ؟!»، وهنا مربط الفرس، لماذا لا يعترفون؟ لماذا حتى أولئك الذين تغيرت مواقفهم وآراؤهم لا يتعرضون لماضيهم وماضي أصدقائهم بأي نقد؟ لماذا لا يضعون المرحلة السابقة بكل حمولتها في ميزان النقد والتمحيص؟ مع ملاحظة أن تلك المرحلة المتوحشة قد نسل منها أفاع وعقارب لم تزل تنهش في جسد الأمة والوطن، وتسم بلدغاتها وجه الغد لتشوهه وتحرمه العافية، فلماذا لا يتبرأون من النار الأولى التي أوقدوها فيرفعوا الشرعية عن الشرر المشتعل بالدم والأشلاء والتطرف الذي تفرّع عنها؟ لماذا لم يفعلوا ذلك حتى بعدما قرّعهم المتطرفون المعاصرون في أكثر من كتاب ومقال وحديث ركزوا فيها على «التناقض» لدى الدعاة في مواقفهم بين السابق واللاحق؟ كما فعل ذلك يوسف العييري القائد الأول لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب وناصر الفهد وآخرون؟ لم يفعلوا حتى اليوم فهل تراهم أو بعضهم يفعلون يوما! خاتمة: لم يكن هذا الحديث حاشية على حوار، ولا شرحا لمتن، بل كان محاولة لتسليط الضوء على أن الموقف من «حركات الإسلام السياسي» ليس بالضرورة موقفا من الدين، وأن «الدعاة» شيء و«الفقهاء» شيء آخر، وأن أهداف الدعاة لها وجهة وأهداف الفقهاء لها وجهة أخرى، ولكل وجهة هو مولّيها.