مشاري الذايدي - نقل عن صحيفة الشرق الأوسط تردد اسم الداعية السعودي، الدكتور عوض القرني، وليس عائض القرني، في الأخبار أخيرا بعد اتهامه بتهمة تمويل جماعة الإخوان المصرية وغسل أموال لها من أجل ذلك. النيابة المصرية خلطت في البداية بين اسم عوض وعائض، وبينهما فرق، وقد نفى الشيخ عائض، وهو الداعية الشهير والنجم الأشهر، زميلنا الذي يكتب في هذه الجريدة في صفحة «آفاق إسلامية»، التهمة جملة وتفصيلا، وبين أنه لا علاقة له بالقصة كلها، وبالفعل حسم المستشار هشام بدوي المحامي العام الأول لنيابة أمن الدولة العليا في مصر الالتباس الحاصل في اسم الداعية السعودي المتهم بقضية غسل الأموال وتمويل جماعة الإخوان المسلمين، ليعلن أن المتهم في القضية هو الداعية عوض القرني، وليس عائض القرني. قصتنا هنا ليست التفاصيل القضائية والقانونية، هذه تخص المعنيين بالقضية من متهمين ومحامين ونيابة وقضاء. وقد نفى الدكتور عوض القرني التهم الموجهة واصفا وضع اسمه في قائمة المتورطين لصالح جماعة الإخوان بمؤامرة صهيونية مباشرة، قائلا إن الاتهام كان مخططا له من قبل. كما في حواره المهم في صحيفة «عكاظ» السعودية (الخميس الماضي 29 أبريل/نيسان 2010). شخصيا أرجو للدكتور عوض القرني السلامة من كل الملاحقات والمتاعب. المهم، في نظري، ليس حكاية التهم المصرية للقرني، بل تعليقاته التي أبداها في حوار صحيفة «عكاظ»، حيث كان الرجل للأمانة شفافا وهو يتحدث عن موقف الحركة الإسلامية في السعودية، بوصفه فاعلا قياديا فيها، من التطورات التي تلم بالمجتمع السعودي، والسجالات التي تخاض الآن، ليس بين من يقال لهم ليبراليين وإسلاميين، حول قضايا المرأة والتعليم والتشدد ضد الآخر، بل حتى بين الإسلاميين أنفسهم، وكل سعودي معني، تابع الحجر الذي ألقاه الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي في بركة التيار الديني عندما قال ما خلاصته إن هناك «غلوا» في موضوع الاختلاط بين النساء والرجال غير مسوغ، وتضخيما غير طبيعي من قبل التيار الديني في السعودية لمسألة الاختلاط، قال الغامدي ذلك وهو رئيس فرع الشرطة الدينية أو «الهيئة» كما هو الاسم المختصر لها في السعودية، في منطقة مكة، فأربك ردود فعل دعاة التحريم الشامل، وآخر ما استجد في ذلك رسالة وجهها أحد صقور شيوخ الإسلاميين في السعودية، الشيخ عبد الرحمن البراك، ينصح فيها جملة من المشايخ، ومنهم الغامدي، بالكف عن إصدار هذه الآراء التي تيسر الموقف الفقهي تجاه المرأة، معتبرا، أي البراك، هؤلاء المشايخ سيكونون: « مفاتيح للشر على الأمة بتسويغ أو تهوين ما يبغيه أعداء الله من الكافرين والمنافقين من تغيير حال هذه البلاد العزيزة المملكة العربية السعودية بلاد الحرمين، وجرِّها إلى ما جرى على البلاد الإسلامية التي رزحت تحت نير الاستعمار دهرا حتى مسخها، ونفذ فيها خططه، فلم يخرج منها حتى سلمها لمن يبقي على مخططاته وآثاره، ولا يخفى أن من أعظم آثاره ما يسمى بتحرير المرأة». الشيخ البراك كما نعلم أثار ضجة هو الآخر قبل أسابيع حينما أصدر فتوى وصف فيها من «يستحل» الاختلاط بالردة عن الإسلام، ومعلوم أن حكم المرتد هو القتل بعد الاستتابة، وهي الفتوى التي أثارت ردودا معترضة على البراك من رجال فتوى ودين في السعودية وغيرها. نعود لعوض القرني، وحواره في «عكاظ»، فقد قال الرجل إنه يتفهم مواقف الرافضين للتجديد في بعض الآراء الفقهية، رغم أنه ليس ضد التجديد كما قال، ولكنه يتفهم هذه المواقف المتشككة من الناس إذا أخذ هذا التشكك في سياقه العام، دعونا نقرأ شرحه بنصه وهو يجيب على السؤال القائل: *هل الكوابيس تمثل عائقا عن قبول المستجدات الفقهية؟ - دعني أوضح لك، الناس يشعرون أن وراء هذه المستجدات توظيفا معينا، وأنها تعبر عن مشروع متكامل ينزل على قطرات، واحدة تلو الأخرى، وحين يفشل الإنسان في الإقناع يبحث عن مسوغات فكرية هنا وأخرى فقهية هناك، إضافة إلى مسوغات بحثية وعلمية. أحيانا قد يدفع لطرحها من لا يدرك ما وراء الأكمة، عندما يدرك الناس هذا الأمر فسيرفضونه، والملاحظ أنه إذا أخذنا هذه القضايا مجردة من سياقاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية فإننا نرى أنه لا إشكال فيها وأنها من باب الخلاف السائغ. لكن عندما توضع في سياقها نستحضر الموقف النبوي في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها «لولا أن قومك»، وحينئذ تحسب العواقب والنتائج والآثار. ثم يشن هجوما كاسحا على دعوات التجديد لأنها تأتي ضمن: «سياق الهجوم على الإسلام وثوابته ودعاته وعلمائه والجماعات التي تحمله». وفقا لذلك يصف عوض هذا الرفض الكاسح لأي دعوة تجديد بأنه: «حالة صحية». هذه الأسئلة وهذه الأجوبة التي قدمها الدكتور «الصحوي» عوض القرني (والصحوي هنا ليست نبزا، فهو في ذات المقابلة أشاد بها ودافع عنها وانتمى إليها) ليست مبتوتة الصلة عن سياق ما يجري في السعودية من جدل وتحرك على الساحة الفقهية والشعبية، هناك مخاضات وتحولات تجري هذه المرة داخل جسد التيار الديني نفسه، وليست كما حاول البعض تصويرها في السنوات العشر الماضية بأنها مجرد «خناقة» بين أهل الدين وأعداء الدين، فأن يأتي شخص مصنف بأنه من قادة الحركة الإسلامية، ولا تجد فرقا في خطابه السياسي العام مع أي إخواني مصري كلاسيكي تجاه السياسة العامة، ويشكو أيضا من مضايقات بعض المتشددين المحليين للدعاة ويتهمهم بأنهم شباب جهلة، يأتي ويدافع عن حالة الرفض القاطع لأي تجديد فقهي في مسالة المرأة الآن! فهذا يعني شيئا واحدا: نقبل الانفتاح إذا أتى منا نحن، أو من من يماثلنا من أبناء الصحوة الأمناء على هوية الأمة، هنا يمكن أن يصبح التجديد «حلالا»، أما إذا أتى من غيرنا (حتى لو كان هذا الغير شيخا وفقيها!) فهو يعتبر مشبوها يخبئ شيئا «وراء الأكمة»، رغم أنه ليس وراء الأكمة إلا ما هو أمامها، وهو وجوب الحياة والتجديد في كل زمان ومكان بعيدا عن عقدة المؤامرات التي لم تفارق خيال الإسلاميين منذ حسن البنا إلى يومنا. لا تفسير لهذا التناقض في نظري إلا أن يكون الأمر له تفسير سياسي وليس تفسيرا فقهيا خالصا، ذكر المفكر البحريني باقر النجار في كتابه «الحركات الدينية في الخليج العربي» أن: «جماعة الإخوان المسلمين تتصف بقدر أكبر من المرونة الاجتماعية إذا ما قورنت بالجماعة السلفية، سواء أكان ذلك من حيث الموقف من المرأة أو من مسائل الحياة الاجتماعية الأخرى، إلا أن هذه الجماعات لا يمكنها إلا أن تدعم الجماعات السلفية في مقترحاتها المتشددة». وهذه ملاحظة صحيحة، حيث رأينا أحيانا أن جماعات الإخوان، التي تقدم نفسها باعتبارها أرقى وأذكى من الجماعات السلفية «الساذجة» تتخذ مواقف أكثر تصلبا وعنادا ودوما من الجماعات السلفية التي يتوقع المراقب أنها قد تغير مواقفها تجاه مسائل عامة أكثر من أن يتوقع تغيير الإخوان لموقفهم، بسبب أن السلفي ليس «معجونا» بالهم السياسي والغرق بفكرة المكر والمؤامرات العالمية الكبرى على الإسلام وأهله، وهو فن في التحليل السياسي أتقنته وروجته جماعات الإسلام السياسي الإخواني وقبلهم الجماعات القومية. نتحدث بشكل عام، ولا نقول إن الدكتور عوض القرني من جماعة الإخوان، ولكن نقول إنه رجل من رموز تيار «الصحوة» ووصف الصحوة هو وصف إعلامي سعودي لكل أبناء الحركة الإسلامية في السعودية، وهم غير المتدينين العاديين، لأن أبناء الصحوة يحملون رسالة ومشروع تغيير، بينما المتدين العادي.. عادي! يقول عوض القرني، في حواره الصحافي هذا، مترافعا عن الصحوة التي تعرضت لنقد شديد في السنوات الأخيرة: «رموز تيار الصحوة كان لهم دور كبير في توعية الأمة، وكان لهم إسهام مقدر في كبح التطرف والغلو اللذين ما وجدا منافذ بين الشباب إلا في الفترة التي توقف فيها رموز الصحوة (يعني فترة اعتقال شيوخ الصحوة في منتصف التسعينات إثر أحداث حرب تحرير الكويت)، حيث وجد الفكر الغالي المتطرف طريقه إلى بعض فئات الشباب. وعندما عاد رموز الصحوة مرة أخرى إلى الساحة أصبحوا سدودا منيعة أمام التطرف». الرجل، الدكتور عوض، كان في لحظة تجل في هذا اللقاء. ولمن لا يعرف، فعوض القرني هو صاحب كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» الذي كان «مانيفستو» صحويا على غرار «برتوكولات حكماء صهيون» لأبناء الحركة الإسلامية، وكان أيضا فاعلا، مع آخرين من رموز الصحوة، في حرب الخليج الثانية. كلمة حق يجب أن تقال في حق الدكتور عوض، أنه كان واضحا وواثقا في الحديث عن صحوة التسعينات بهذه الطريقة، كما يحفظ له أنه من أفضل مفكري الصحوة ومثقفيها فيما يخص صدق التمثيل لهذا التيار، دون هوادة أو تغيير، على غير ما نراه من فوضى الألوان والأصوات لدى رموز آخرين. لذلك أتمنى على الدكتور عوض أن يتسع صدره لمثل هذه المداخلات التي غرضها تقليب أوراق التاريخ الثقافي والسياسي في المجتمع، في المقام الأول، وحق الاختلاف في المقام الثاني. في نهاية الأمر: لا ريب أن تيار الصحوة في السعودية كان يعتبر أهم تيار اجتماعي وفكري في البلد منذ نحو أربعة عقود، ومن الظلم له عدم وجود أناس أكفاء من أبنائه مثل الشيخ عوض القرني للحديث عنه.. [email protected]