ترتفع أحياناً المطالبة بزيادة الرواتب. وعندما يتحدث أغلب الناس عن زيادة الرواتب فهم يتحدثون عن زيادة رواتب موظفي الحكومة، علماً بأن القطاع الحكومي أصبح لا يتسع للمزيد من طالبي العمل لأنه مكتظ بالموظفين لدرجة أن الرواتب تحظى بنصيب الأسد من ميزانية الدولة.. أو ما يسمى ب «الباب الأول» من الميزانية. وفي وقت ليس ببعيد لم تكن ميزانية الدولة تشمل إلا القليل جداً من المخصصات المالية المتعلقة بالمشاريع، وهي ما يسمى ب «الباب الرابع» لأن الرواتب تلتهم الميزانية! ومؤخراً كثر الحديث عن زيادة الرواتب، خصوصاً أن بعض الدول العربية - مثل مصر والكويت - تشهد تطورات في هذا المجال.. وهذا ما تعكسه التغطيات الساخنة في صحف مصر والكويت.. لكن ما ينبغي إدراكه والتفكير فيه بعمق هو تأثير زيادة الرواتب على الموظفين وعلى الاقتصاد بشكل عام. فمن حيث المبدأ، فإن الراتب هو مقابل إنتاج الموظف ويُراعى فيه أيضاً تكاليف المعيشة وما يكون من غلاء وتضخم في الأسعار.. إلا أن ما يحدث في معظم الأحوال هو أن الزيادة في الرواتب تؤدي إلى مزيد من الغلاء ما لم يصاحب ذلك زيادة في الإنتاج يبرر الزيادة في الرواتب.. وهذه حقيقة يعرفها جميع الاقتصاديين. وعندما ترتفع الأسعار بسبب ارتفاع الرواتب فإن القيمة الحقيقية للراتب لا تتغير بل ربما تتناقص. فلو ارتفعت الرواتب، على سبيل المثال، بنسبة خمسين بالمائة وتبعها ارتفاع بالمستوى العام للأسعار بنسبة ستين بالمائة فإن الناس - إجمالا - يصبحون أشد فقراً من ذي قبل. ولهذا لابد أن يواكب زيادة الرواتب اتخاذ اجراءات لمنع تسرب هذه الزيادة من جيوب الموظفين إلى جيوب التجار.. ومن النادر أن تفلح الحكومات في تحقيق هذه الغاية لأن منطق السوق أقوى من منطق أي حكومة.. وحتى عندما تفرض الحكومة نفسها على السوق فإن الناس سرعان ما يبتكرون سوقاً موازية هي «السوق السوداء».. وهي السوق التي تعكس حقيقة ندرة السلع والخدمات داخل الاقتصاد. أما الأمر الآخر الذي يرتبط بزيادة رواتب موظفي الحكومة فهو أثر هذه الزيادة على موظفي القطاع الخاص.. فإذا زادت رواتب موظفي الحكومة ولم تصحبها زيادة في رواتب موظفي القطاع الخاص يصبح الأخيرون في وضع صعب بسبب زيادة الأسعار وثبات رواتبهم. والأخطر من هذا هو أن الفجوة بين الرواتب في القطاع الحكومي والرواتب في القطاع الخاص ستؤدي إلى عزوف طالبي العمل عن التوظيف في القطاع الخاص في وقت أصبح القطاع الخاص يمثل القناة الأساسية التي توفر الوظائف الجديدة. هذه القضايا لابد أن تؤخذ في الحسبان.. فلا يكفي أن ترتفع الرواتب لكي تتحسن أوضاع الناس. فالأهم من زيادة الرواتب هو أن تكون هناك معادلة شاملة لتحسين الوضع المعيشي للمواطنين بغض النظر عن القيمة الاسمية (العددية) للرواتب لأن المهم هو القيمة الحقيقية (الشرائية) لما يحصلون عليه من دخل.