غاب فعل الإرادة عن اللسان العربي بغياب الإرادة ذاتها، فلم تعد الشعوب تريد شيئا، أو هكذا بدت طيلة فترة ولادة الجمهوريات العربية بعد التحرر من الاستعمار.. ثم اكتهالها وشيخوختها، ومسخ كل شعب فعل الإرادة بطريقته الخاصة، وكأنه يعبر عن واقعه بعد أن أضحى مسلوبها، فأصبح المصري ( عاوز ) ، والتونسي والليبي ( نبّو ) ، واليمني ( أشتي ) ، والسوداني ( داير )، والشامي ( بدي ).. طبعا إلى جانب ( أبغى ) و ( أبغي ) ، و ( آبّي ) إلخ . فجأة ، وفي لحظة تاريخية، قدحت شرارتها بجسد شاب تونسي.. تنبهت تلك الشعوب المسلوبة أو المضطهدة أو المجوّعة أو المفزعة.. إلى غياب فعل الإرادة.. فتحت القواميس فعثرت عليه وهو ( يُريد ) أن يستقيل من القاموس.. بعدما أقالته الشعوب من ذاكرتها.. فأطلقت حناجرها ( الشعب يريد ) وكأنها تكتشف لأول مرّة فعل الإرادة الحقيقي القادر على صنع الثورات.. فتركت كل مفرداتها المزورة، وعادت إلى النص، نص الإرادة، ونص الحياة، لكن الأجمل ليس في أن هذه الشعوب استردت إرادتها.. وإنما لأنها تنبهت إلى حجم التلوث الذي قاد إلى خلط المفاهيم، إلى حدّ إخفاء بعضها برداء بعض، فمثلما اختفت الإرادة، أو غُيّبت بتلك المفردات الممسوخة، تم كذلك طوال فترة غيابها.. إخفاء الانقلابات برداء الثورات.. فأصبح انقلاب 23 يوليو يسمى ثورة يوليو، وانقلاب الفاتح، يُدعى ثورة الفاتح، وانقلاب السودان، وانقلاب سوريا والعراق واليمن.. كلها لبست قناع الثورات.. حتى جاءت الثورات الحقيقية.. لتقول: إن هنالك فارقا كبيرا بين الثورة والانقلاب.. فالثورة هي التي تقوم بها الشعوب لاسترداد كرامتها أو أمنها أو أي من حقوقها، أما الانقلاب فيقوم به العسكر للاستيلاء على السلطة باسم الشعوب، وأرجو ألا تتعبوا أنفسكم بالبحث عن أي ثورة في الوطن العربي منذ الاستقلال إلى ما قبل بضعة أشهر، وقبل دفن محمد بو عزيزي.. لأنكم لن تجدوا غير عدد هائل من الانقلابات التي تلفعت برداء الثورات وزورتها، وضحكت علينا حتى سجلناها بذات الاسم في كتب التاريخ .. إلى أن توفر فعل الإرادة، وبدأ يلقن الانقلابيين الواحد تلو الآخر دروسا في الثورات.. لتعود المسميات إلى طبيعتها، وكأننا أمام عملية تصحيح مفاهيم.. بنفس قدر تصحيح الأوضاع. خذوا مثلا ( زعيم الثوار ).. أو ملك ملوك القارة السمراء.. ذلك الذي بدأ انقلابه / ثورته ( على اعتبار أن الثورة هي عقيلة أو زوجة الثور فقط ) وفق زميلنا الجميل عبد السلام الهليل .. بدأها العام 69 م ، كان ( بو منيار ) حينها شابا يافعا .. يمتلك صفا من الأسنان البيضاء تبدو بوضوح ، وهو يتمم ثورته على أعواد المنابر بخطب نارية، وبعد أربعين دهرا من ابتلاع طعم الثورة.. توهم خلالها العقيد أنه ليس مجرد ثائر سلاح، وإنما ثائر حكمة أيضا.. فأصبح يُرسل حديثه من تحت شفتين مطبقتين، بانتظار الهتاف.. ربما لأن الحكماء لا ينبغي لهم أن يفتحوا أفواههم.. يكفي أن تتحرك شفاههم بغنّة أو من غير غنّة ، ليعلو الهتاف !! .