نحن أدرى وقد سألنا بنجد أطويل طريقنا أم يطول وكثير من السؤال اشتياق وكثير من رده تعليلُ وفي الجواب أقول: إن الطريق طويل جداً، وأن الجزر الذي نحن فيه، لن يتحول إلى مدٍّ إلا بعد عقودٍ، فمن تعب نرغب له أن يستريح، ومن أصيب بالاحباط، والاحباط صار بالنسبة إلينا قدراً، نعذره على احباطه، ومن أدركه اليأس نعذره على يأسه، ولا نطلب، مقابل ذلك كله، إلا أن يعذرونا، أو يعذروني، لأنني لم أيأس، ولن أيأس، لأنني "الحجُر الذي رفضه البناؤون فصار رأس الزاوية" ولأنني والبحر عروة وثقى! في سفري الطويل «أنا الجناح الذي يزهو به السفر» أحاول في ذاتي أن أهرب من ذاتي، ظناً مني أن في الهروب من الذات، أجد خلاصي من دودة الفكر التي تلوب في دماغي، منقبة عن المستور فيه، وعن المسكوت عنه، لتظهرهما إلى الناس، فوق كل ما عرف الناس عني في رواياتي، وفي المقابلات الصحفية التي أقول فيها الحقيقة ولا أبالي! إنني، عند نفسي، صفحة بيضاء، لكنني، في خبث اللا شعور، لست كذلك، فالكاتب مطالب بالكتابة، ولشد ما بت أكره الكتابة، هذه المهنة الحزينة والقذرة، والتي لا انفكاك من أسرها سوى بالموت، وهذا، لسوء الحظ لا يواتي، حتى بت أخاف ألا أموت! نعم أخاف ألا أموت عقاباً لي على اختراقي للمألوف. إنني أعيش «على قلق كأن الريح تحتي» وأبارك هذا القلق ثلاثاً، والعن الطمأنينة ثلاثاً، وبينهما تظل دودة الفكر القارضة تحفر في دماغي، والفكر، كما تعلمون، رهيب، وعند كل غروب أردد: «اسجدي لله يا نفسي فقد وافى المغيب - واستريحي من عناء الفكر فالفكر رهيب» إلا أن النفس تأبى أن تستريح، لأن دودة الفكر تأبى أن تستريح! والروح المجرحة، المدماة، لا تشيخ، بل تنزل مع صاحبها إلى القبر، بينما الجسد هو الذي يخون! وقد خانني جسدي. الإشكالية، هنا، في البعد عن الحبر والورق، رغم أننا نحتاجهما في ردع كل منكر حين يعجز الضمير عن ردع هذه المنكرة! لذلك قلت، في سنوات خلت من عمري، لسيدة قدمت إلي بيتها على البحر، لأكتب فيه شتاء: «إنني، يا سيدتي، إذا قبلت عرضك، وسكنت بيتك، فإنني، فيه، سأفكر دون أن أكتب، فأنا هارب من التفكير، لذلك أشكرك، واعتذر إليك» وقبلت السيدة زوبور استور، كما هو واضح من إهدائي في رواية «الفم الكرزي» اعتذاري، مع الشك في عقلي، وهو شك مبرر تماماً لأنني نصف مجنون نصف عاقل، وأنا أحب نصفي المجنون كثيرا! هذه الإشكالية، في البعد عن الحبر والورق، أو الرغبة في ذلك، تكررت معي في زيارتي الأخيرة لإمارة أبو ظبي، حيث زارني رجل له في القانون مكرمة، وفي الدفاع عن العدالة مكرمة أكبر، وهو المحامي الأستاذ محمود رضا العظمة، وزوجته الفنانة التشكيلية السيدة عطاف نصري العظمة، اللذان أكرماني بغير حدود، واثنيا على أدبي بغير حدود أيضاً، وعرضا علي الإقامة في شقة الضيوف التي يملكانها على البحر، فاعتذرت للمرة الثانية، اعتذاراً لا مبرر له، سوى الجنون الذي يدفعني إلى الإقامة في بيت أبي، وأبي ليس له بيت، في اليابسة أو على الماء. طبعاً لم أقل لهما سبب الاعتذار، وفي بيتهما المترف إلى حد لا يصدق، تحدث الزوج إلي عن الوطن، عن دمشق مدينته، التي عشت فيها حتى الآن، اثنين وخمسين عاماً، ولم أكتب عنها اثنتين وخمسين كلمة، سوى مقطوعة «هل تعرف دمشق يا سيدي؟» وهذه، في المعالجة، تحولت إلى قصة طويلة، لا علاقة لها بدمشق أصلاً، ولم أقل للسيدة الفنانة، التي تلطفت، وهي تتقد حماسة، باطلاعي على لوحاتها، وما فيها من فن نابض بالتأثر، وبالمشاركة الوجدانية، مع كفاح اخوتنا في فلسطين، وفيها، إلى هذا، صرخة مدوية: لا لضرب العراق! الذي ضربه الآن الأمريكيون باسم الحرية والعدالة الكاذبتين فتأملوا! إن العرض الصادق، في أن أقيم ما شئت، في بيت ضيافتهما على البحر، كان أخوياً، حميمياً، فيه إلحاح مسربل باللطف، إلا أن هذا الإلحاح في الدعوة، قوبل مني بإلحاح في الاعتذار، لأنني لو سكنت بيتهما لن أكتب، بل سأفكر، وأنا هارب من التفكير، وهذا ما لم أقله، كيلا يشكا في سلامة عقلي، كما شكت، قبلهما، تلك السيدة في سلامة هذا العقل، الذي ألعنه صباح مساء، لأننا، في هذا الوطن العربي، كلنا عقلاء، والعقل هو سبب كل مصائبنا، وكل هزائمنا أيضاً. أما ما فعلته، في غرفتي بالفندق، بعد عودتي إليه، هو التالي: كتبت لهما رسالة، قلت فيها: «إن نندم على الصمت، أفضل من أن نندم على الكلام» وهذه حكمة تعلمتها من غيري، وقد اقترفت، في بيتكما المترف، خطأ الكلام الذي ندمت عليه، لأنه، كما يخيل لي، كان نافلاً في بعضه، وكان علي أن أصغي أكثر مما أتكلم، لو أن الموعظة البوذية نفعتني وأنا مشرد في الصين، فلغة القانون فن من الفن، وكان علي أن استوعب حقيقتها، ونغم الفرشاة، في إبداعات السيدة الفنانة، كان جديراً بالإصغاء إليه، لأنه يقول ولا يقول، وفيه ما يتذوق بغير قول، ويتناغم مع المشاعر دون فضول في اللفظ، مهما يكن عذباً طلياً. «إنني عند نفسي، أنف في كبرياء الرجولة، وتأبى شمائل هذه الرجولة، في عرف الوفاء، إلا أن تكون على وفاء أكبر، وهذا ليس بمستطاع، كوني، الآن، في فقر أبيض، وفي طفولتي، عندما كنت عارياً حافياً جائعاً، كنت في فقر أسود، وفي الحالين لا أبلغ «أن أجزي على الجميل جميلاً» لذلك أحس، أمام الصدق، والعفوية، والتلقائية، والحميمية، أني مدين ولست بدائن، وهذا إثم لا أقترفه، ففي البساطة ولدت، وعليها نشأت، وفي موكبها أرحل، وهذا قدري، الذي في ثناياه طموحي، وإني على كفاء مع هذا الطموح، فالدنيا ابتهالات بكلماتي، وهذا حسبي، وهذا صلحي مع هذه الدنيا بالنسبة لشخص، وهذا خصامي معها من أجل غيري: الفقراء، البؤساء، والمعذبون في الأرض! «تُرى لو علم الصديقان أن الذي كان في بيتهما خريج سجون، لا خريج جامعات، وأنه، في شقاء الغربة، كان خريج المنافي، لا نزيل فنادق، من أي درجة كانت، وأنه، في سبيل الوطن والشعب، قد عرف التعذيب أيام «الانتداب» الفرنسي حتى ازرقت منه العيون في بياضها، لا الجسم وحده في سمرته، ترى لو علما ذلك، أما كان موقفهما مني قد تغير؟! ما أظن، لأنهما في الاريحية «أندى العالمين بطون راح» وفي الوطنية يأتيان في مقدم الركب، إلا أن الاحتياط واجب، تفادياً للانجراف مع العاطفة، أو للانزياح عن خط العقل، وبسبب من أنني أؤثر أن أبقى حيث أنا، على أديم النضال بالقلم، بعد أن ناضلت طويلاً بالجسد، أداء لواجب، لا منّة فيه، ولا تعب معه، تماماً كما قال صديقي الشاعر شوقي بغدادي: «وطني أحبك لا ليرفعني حبي، ولكن تغلب الشيم». بحار أنا، والبحار الصادق، في شرف اللجة، وعلى اسمها، يجهد كي يمحو من ذاكرته، من تاريخه، لحظة كان فيها جباناً، ولن أزعم أنني كنت في الشجاعة رباناً، وأنني، في عواصف الدهر، بحراً وبراً، كنت الذي لا يخاف.. بلى خفت، غير أنني صمدت لخوفي، تغلبت عليه، وهذه هي الشجاعة في قاموسي، وقد عشت، عمري كله، مع المغامرة على موعد، فحيث تكون هي، أكون أنا، ورأيت الموت ولم أهبه، فالموت جبان لمن ينذر له نفسه، وها هي الثمانون تضعني على منزلقها، والموت الذي أسعى إليه يفر مني. أقول هذا، حتى لا أخدعكم، سيداتي سادتي، في شيء، حتى لا أذأب كما يذأب الذين في تطلعهم إلى ما في أيدي غيرهم، ينافقون، ويفخرون في نفاقهم، دون أن يرف لهم جفن، وحتى تغلقوا بابكم في وجهي، أنا خريج السجون، شريد المنافي، متعذراً عن الإقامة في بيت ضيافتكم، لأنني، فيه، لن أكتب، بل سأفكر، والتفكير مهنة شاقة لو تعلمون.. هل استطيع الهرب من دودة التفكير التي في دماغي تقولون؟ وما قيمة الحياة بغير تفكير في شؤونها وشجونها؟ ولماذا كنا، وكان الفكر، إذا ما كان دأبنا السعي لإعدامه؟ ولماذا نقنط إذا رأينا الكأس فارغة، ما دام «في كل عام ينضج العنب؟» ولماذا أهرب من البحر إلى البحر، في عبثية لا طائل تحتها؟ في الجواب أكرر القول: إنني لا أسكن إلا في بيت أبي، وأبي ليس له بيت على البحر، أو في الرياح الأربع، وهذا هو السبب في اعتذاراتي لمن عرضوا استضافتي مشكورين، ويكفيني، من مكافآت السماء، أن أتملى عناقيد نجومها، وهي تتدلى، مشعة وبهية! إنني لست جامع أوشاب على الشاطئ، ولست ممن يضعون أقدامهم في البحر، ويدعون أنهم عرفوا البحر، ولست في الذين يتأنقون في الكلم لوجه السفسطة، بل من الذين يعتصرون الكلمة، يعشقونها، يضاجعونها، ينقبون عنها، كما يفعل الصيادون في الماء المتجمد، حتى أعثر عليها، لأنه، في شرعي، أن للمعنى الواحد، كلمة واحدة، إذا لم نجدها علينا أن نتوقف عن الكتابة حتى نعثر عليها، وفي سبيل العثور عليها، قضيت ليلة كاملة، وفي الغد، وفي طقوسي عندما أكتب، وجدت الكلمة الضالة، فوضعتها حيث يجب أن توضع، ثم خرجت من المكتب إلى الشوارع، يدي في جيب بنطالي، وشفاهي ترسل صفيراً منغماً، لأغنية نسيتها الآن. الكتابة، إذن، شرف الكاتب، في صدقه والكبرياء، وعندما كنت أكشف لكم، سر شباب الروح وشيخوخة الجسد، فإن قولي كان هو القول الصدق، فالروح تبقى شابة، بينما الجسد يخون، وأفضل من عبّر عن هذه الحقيقة أمير أحمد شوقي الذي قال: سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعل على الجمال له عتابا ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا؟ وكنت إذا سألت القلب يوماً تولّى الدمع عن قلبي الجوابا ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا وأتوقف عند البيت الأخير، لأنه صريح، صادق، معبر عن حقيقة أن الذي ثكل الشباب، هما الدم واللحم، أي الجسد الذي يخون شباب الروح. إن الخبرة هنا، مردها لا إلى الشيخوخة التي صرت إليها، بل إلى الوعي بحال الروح والجسد، وإلى علم النفس الذي لا أدب دونه، وإلى مكايدة بدوي الجبل في قوله: أيا من سقانا كؤوس الهجر مترعة بكى بساط الهوى لمّا طويناه فأنا لا أطوي بساط الهوى، وإذا طويته أعيد فتحه، ما دام في الراحة بقايا نار، وبقايا عتب على الجمال، وبقايا عزم شبوب في يراعة القلم، التي ستنفر، أنا الخاطئ، كل خطاياي. بقي أن الآه في غير فرحها، مدعاة للحزن، ومدعاة لأسى من صاح من شعرائنا: يا شعب، يا شعبي، وبعض القول لا يحكى فيضمر