لقد تغيرت ثقافة المجتمع السعودي، ولم يعد العمل الخيري مجرد مساعدة عينية مباشرة يقدمها الأغنياء أو من يستطيع المساعدة للفقراء والمحتاجين، بل تحول إلى برامج عمل وتخطيط بعيد المدى لرسم خارطة تحارب الفقر وتنشط الاقتصاد، فكل جهد يسهم في بناء الاقتصاد الوطني هو جهد محمود ولا يجب أن نبقى مكتوفي الأيدي أمام ظواهر تزيد من تفاقم ظاهرة "العيش على هامش الاقتصاد". لقد شهدنا في السنوات الأخيرة ظهور مفاهيم مثل "الأسر المنتجة" و"مصدر رزق جميل"، وظهرت مؤسسات عملاقة تدعم "الإسكان والتنمية" لذوي الدخل المنخفض، وتشكلت مجالات متعددة للعمل الخيري ترتكز على فكرة "اشتر لي سنارة بدلا من أن تطعمني"، لأن الهدف هو القدرة المتجددة على "اكتفاء الذات" بدلا من الاكتفاء بمساعدة الآخرين. كلنا نتذكر بنك الفقراء في بنجلادش ومساهمته الفاعلة في تطوير نشاطات اقتصادات صغيرة ومتوسطة الحجم قام بها السكان المحليون، وكلنا نعرف أنه لا يمكن أن تتحسن أحوال المجتمعات الفقيرة لمجرد وجود من يساعدهم بل يجب أن يعملوا ويكسبوا رزقهم بأنفسهم وعلى المجتمع أن يفتح لهم مجالات للعمل ويساعدهم في الكسب المشروع. ولكن ما علاقة كل هذا بالتراث العمراني؟ فالتراث مسألة ثقافية عميقة والاهتمام بالتراث مسألة فكرية جدلية مازلنا نخوض في أتونها تكوينا من جانب ونتحاشاها من جانب آخر. مالذي يمكن أن يقدمه لنا التراث العمراني لحل مسألة الفقر؟ التصور هنا يبدو متباعداً ويصعب تصور أنه يمكن أن يكون للتراث العمراني دور على المدى البعيد لحل مشكلة اجتماعية/ثقافية عميقة يهذا المستوى من التعقيد. أؤكد هنا أن للتراث دوراً كبيراً وفاعلاً، ليس لكونه تراثاً، بل لجاذبية هذا التراث عند الناس (في الداخل والخارج) فهو منتج متفرد وغير متكرر، لذلك فإنه يحظى بقيمة ثقافية وجمالية وتاريخية كبيرة تمثل العنصر الأساس في إمكانية توظيفه اقتصاديا لحل إشكالات الفقر المحلية والتي عادة ما تتركز في القرى النائية وأوساط المدن التاريخية. على أنني أؤكد هنا أن للتراث دوراً كبيراً وفاعلاً، ليس لكونه تراثاً، بل لجاذبية هذا التراث عند الناس (في الداخل والخارج) فهو منتج متفرد وغير متكرر، لذلك فإنه يحظى بقيمة ثقافية وجمالية وتاريخية كبيرة تمثل العنصر الأساس في إمكانية توظيفه اقتصاديا لحل إشكالات الفقر المحلية والتي عادة ما تتركز في القرى النائية وأوساط المدن التاريخية. الفكرة نابعة من بعض الملاحظات والعبارات التي سمعتها من سمو رئيس هيئة السياحة، ففي إحدى المناسبات في منطقة الباحة أكد على أن المباني التراثية هي "بترول المستقبل" لكنها لا تنضب بل تتجدد وتتكيف مع معطيات الحياة، وكنت في تلك الفترة أعد العدة للسفر إلى تونس وهناك مررت بعدد كبير من المدن التونسية التاريخية التي تم المحافظة عليها وشاهدت كيف أن السكان المحليين يسهمون بشكل كبير في صنع المنتجات السياحية التذكارية (سوفونير) وكيف أن البعض استخدم مسكنه كمحل لبيع هذه المنتجات والبعض الآخر استخدم بيته كمطعم أو مقهى والبعض ما زال يسكن داره، لكنه يمارس نشاطاً "خدمياً" لدعم الأنشطة الاقتصادية المتعددة التي نشأت في قريته. لقد لاحظت أن كثيراً من الأسر المنتجة تعمل في هذا النشاط السياحي الكبير وتشعر بالرضا كونها مازالت تعيش في مكانها الأصلي وتحتفظ بذاكرتها وجذورها. الزائر لا يأتي لتلك المدن من أجل هذه المنتجات فقط بل لمشاهدة العمارة والتراث العمراني الذي تمت المحافظة عليه ويرغب أن يرى السكان المحليين وهم في أماكنهم الأصلية، فهذا جزء من السياحة المعرفية والثقافية التي تجذب أكثر من 40% من السياح على مستوى العالم. هذه الصورة هي عنصر الجذب الرئيسي، وهي في نفس الوقت التي تفتح المجال واسعا من أجل أن يعمل الكثير على هامش تأهيل التراث العمراني وتكييفه لحياة جديدة معاصرة، فالناس بحاجة إلى حكاية للمكان وليس فقط مشاهدة المباني وبالتالي فإن ظهور صناعات مكملة "لحكاية المبنى" مسألة أساسية، وغالبا ما تكون هذه الصناعات محلية وعلى مستوى الأسر والأفراد وترتبط بخصوصية المكان بحيث تبقى كتذكار يصعب الحصول عليه في مكان آخر. لابد أن نؤكد هنا على أن كل من يزور مكاناً يرغب في أن يحمل معه ما يؤكد أنه زار هذا المكان، لكنه لا يستطيع أن ينقل المكان معه، وهذا يفتح مجالات متعددة للعمل لكثير من السكان المحليين في حالة إعادة الحياة للمكان التاريخي، فالناس مازالت تعتبر الماضي هو المفتاح الأساسي لجذب السائح المعاصر ولكن ليس بأسلوب الماضي، كما هو، بل بأسلوب الحياة المعاصرة، ولعل هذا هو المفتاح، فنحن دائما نسعى إلى تبني سياسة "حياة جديدة لمبانٍ قديمة" ونعتقد أن هذه الحياة تشكل كل شيء أي أنها حياة للمبنى والمجال الاجتماعي والاقتصادي الذي يقع فيه المبنى، وبالتالي فإننا نتصور أن هذه الحياة الجديدة ستفتح مجالات عمل متعددة لمن يمتلك هذه المباني ولمن يعيش في تلك المناطق التاريخية، الأمر الذي يجعل المحافظة على التراث العمراني تشكل منعطفا حقيقيا في معنى العمل الخيري لأن المساهمة في المحافظة عليها يعني فتح أبواب رزق متعددة ومختلفة لكثير من الناس دون أن نضطر لمساعدتهم مباشرة. ولعلي أؤكد على مسألة التراث العمراني الذي أعتبر المحافظة عليه يمكن أن تكون جزءاً من منظومة العمل الخيري، وأدعو علماءنا ومفكرينا، كي يحثوا الناس لتبني أفكار متجددة للعمل الخيري بدلا من المساعدة المباشرة والعينية ,أهمها المحافظة على المناطق التاريخية وإعادة الحياة إليها، ففتح أبواب الرزق وإشراك السكان المحليين خصوصا في القرى البعيدة عن الحواضر العمرانية في بناء اقتصادات محلية منتجة هو أهم أهداف العمل الخيري الخلاق. لا نريد لتلك القرى أن يهجرها أهلها ولا نريد أن تتكدس المدن الكبرى بالمحتاجين والفقراء فهذا يزيد من ظاهرة الفقر، بل نريد أن ننمي تلك المواقع التراثية المهمة ونصنع منها منتجاً ثقافياً/اقتصادياً يبقى مع الزمن. لقد شهدت مثابرة سمو رئيس هيئة السياحة قبل فترة لجمع تبرعات من أجل تبني مشروع يحافظ على التراث العمراني في ينبع، فقد كانت تلك المثابرة من أجل حفظ ذاكرة الوطن، لكن الأمير كان يتحدث عن الأسر المحتاجة وكيف أن هذا المشروع سيوفر فرص عمل للكثير من الناس الذين يعيشون في هذا المكان، هذا ما نحتاج إليه ويجب أن نسعى لتحقيقه. التراث العمراني بحاجة إلى وعي جديد ومختلف عن التصور الذي يعتقده البعض، فهو ليس رفاهية ولا يمكن اعتباره مجرد عمل لحظي أو من أجل القول إننا نملك تراثاً ولنا تاريخ، مع أهمية أن نقول ذلك، بل هو من أجل بناء حياة اجتماعية واقتصادية متجددة في قرى ومناطق تاريخية تقع وسط مدننا، كنا نراها عبئاً علينا في يوم من الأيام ويجب أن نراها اليوم على أنها مصدر ثقافي مهم ومصدر اقتصادي متجدد. هذا الوعي الجديد يتطلب أن ننظر للتراث العمراني والمحافظة عليه كجزء من العمل الخيري الذي يجب أن يسهم فيه كل مواطن قادر على ذلك.