في تاريخنا لم يستطع المبدع الموهوب في الأدب أن يجد لها حيزا أو مكانا يعتد به على مستوى صناعة الرأي واستقلالية الطرح، وبلورة الرؤى المتعلقة بالشأن العام , فهو في الغالب كان متورطا بمهام ( البوق) المتكسب المروّج والمسوغ لأفكار السلطة من ناحية، ومقارعة أعدائها ومناهضة حسادها من ناحية أخرى , أو على الوجه الآخر كان يقوم بدور النديم المسامرالذي يسرد الطرائف والأخبار ليسلي ويمتع ليالي رواد البلاط , ومايخالف هؤلاء لم يكن يعتد به فيصنفون في الغالب من فئة الصعاليك والمهمشين. بينما صناعة القرار والحل والربط تكون ملفاً يتداول مابين السياسي والفقيه، وعلى الغالب يحسمها السياسي لأن في ثقافتنا طبيعة العلاقة القائمة بين السياسي والفقيه خاضعة لمقولة (يزع بالسلطان مالايزع بالقرآن) . هذه الأدوار التقليدية بقيت لقرون طوال مكرسة لطبيعة العلاقة بين المبدع المثقف ومجتمعه , ولكن في العصر الحديث استطاع مجموعة من رواد الأدب أن يتجاوزوها مستعينين بأفكار التنوير وفلسفة النهضة المغلب للطرح الانساني فيما يتعلق بدور المثقف في الدفاع عن الحريات والحقوق ودعم إرهاصات الدولة الحديثة . على المستوى المحلي أشرق في الحجاز محمد سرور الصبان -محمد عواد - عبدالقدوس الأنصاري - وأحمد السباعي على سبيل المثال لا الحصر.. وفي نجد كان هناك حمد الجاسر وعبدالله بن خميس, اللذان بدورهما كانا يحملان أجندة تزدحم بالأحلام وتضطرم بالرؤى فعندما أسس كل منهما مجلته الخاصة كانا الطليعة التي منحت الآداب السامية شرعيتها داخل ثقافة شفوية بسيطة تكابد الانشغال بالضروريات التي تقصيها عن ترف الآداب والفنون . عبدالله بن خميس على سبيل المثال كان يبذر وسط الشظف والرمل والتوحش والمقاومة بذوراً لكل ماهو متحضر وطموح , وكان طوال الوقت مسكونا بحلمه الذي لايندمل، وأضابيره المزدحمة بالأدوار اللامتناهية التي كان يؤمن بأن الأديب الوطني لابد أن ينجزها . انشغل بالهمّ القومي بل انغمر به عبر قضية فلسطين ومنافحته التي لاتنقطع عنها , عملية التوثيق والفهرسة والضبط في نتاجه التاريخي والجغرافي , تأسيسه للنادي الأدبي بالأحساء ومن ثم الرياض , إحياؤه لفكرة سوق عكاظ , ويجب أن أتوقف هنا لأن القائمة طويلة ليس مكانها مقالي المبتسر بل أوراق المؤرخين والباحثين , فهي جميعها كانت تشير إلى بداية تشكلات المثقف النوعي صاحب القضية , المستقل بفكره فعلى الرغم من علاقاته وصداقاته الثرية والعميقة مع السلطة لكنه استطاع أن يحافظ على تلك المسافة التي تكفل له نوعاً من الاستقلالية في العديد من المواقف التي سيظهرها التاريخ يوما ما. جيل الرواد في المملكة أدخلوا على القاموس العربي لفظة (الأديب) بجميع حمولتها ومسؤولياتها وامتيازاتها , هؤلاء الرواد هم الذين استزرعوا حقول الجميل والإنساني في المكان ,هم الذين أطلقوا سراح المبدع من أدوار شاعر السلطة أو نديم البلاط..