معاداة السامية هي أقسى تهمة من الممكن أن يرجم بها مثقف غربي، هذه التهمة التي من الممكن أن تجعل منه فاقدا لجميع المقومات الإنسانية والأخلاقية النبيلة، أيضا من شأنها أن تشعل ضده حربا شعواء سواء على مستوى العامة أو الإعلام وصولا إلى النخب الفكرية فالجميع سيهب ضد من يصرح تصريحا أو يلوح بفكرة أو حتى يربت تربيتة خفيفة على ظهر فكرة معادية للصهيونية، فبعد الحرب العالمية الثانية وجريمة (الهولوكوست) أسست (تابو) بل صنم هائل يحرم المساس باليهودية كديانة، وباليهود كشعب، وبدولة إسرائيل كدولة عنصرية محتلة. على الرغم من هذا الحصار فقد ظهر للمفارقة صوت من مكان مجاور لغرف الغاز النازية، ليعلن أن إسرائيل هي دولة مهددة للسلام العالمي، وأن ترسانتها النووية هي سبب اضطرابات المنطقة، وأن العالم يكيل بمكيالين في هذه النقطة، فقد استطاع الشاعر الألماني (غونتر غراس) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1999 أن يخترق الحصار، ويفتت (صنم) الهولوكوست وينهض بمهمة المثقف الحقيقي في مجتمعه (أي قل كلمتك وامش) وعلى الرغم من أن الحرب قد اشتعلت ضد (غراس) حتى انه قد اتهم في توازنه الإدراكي وقيل ان هذا التصريح ما هو إلا بواكير الخرف حيث ان عمره يبلغ 85، ولكن على الرغم من هذا ظل (غراس) متماسكا أمام هذه الحملات وكأنه يصر على حق المثقف في امتلاك رؤية مستقلة غير خاضعة للتخويف والترهيب ولجم الأفواه. المثقف في العصر الحديث هو جزء من النخب الفاعلة التي يكون لها دور كبير في صناعة الرأي العام وقيادته وتحقيق آماله وتطلعاته، فلو انتقلنا إلى منطقتنا وأشهرنا سؤالا: هل كان للمثقف دور على امتداد تاريخنا؟ هل كان مضطلعا بمسؤوليات ومهام متصلة بالشأن العام وهل له دور في قضايا وطنه؟ وهل يسهم في صياغة رؤية جمعية خلاقة ومبدعة؟ كإرث ثقافي كان دور المثقف عبر التاريخ هو دور نديم البلاط أو بوق القبيلة، ولم يكن يملك تلك الرؤية المستقلة التي باستطاعتها مواجهة الظلم أو الاستبداد، ولم يكن يمتلك دورا يجعله قادرا على التصدي للتوحش والظلم في مجتمعه، ظل المثقف عبر التاريخ سميرا نديما، واصفا للحدث، دون أن يمتلك تلك الاستقلالية التي تجعل منه قادرا على الالتزام بقضايا المجموع ويجعلها منطلقا لفكره وعمله. ولعل هذا يرجع إلى أن الفقيه كان يقوم بجميع هذه المهام عنه، فالتركيبة الثقافية تجعل للفقيه مكانة قد لا تمنحها للمثقف، ومن هنا ظل المثقف في العصر الحديث يراوح على الهوامش والأطراف وفي تلك المنطقة التي تصنفه بدور المشاغب المارق الذي يخرج عمّا التفت حوله الجماعة وما اتفق عليه المؤتمرون، المثقف بات يصنف بأنه هو الذي يزعج سكون الأشياء وانضباطها، وهو أيضا المواطن المزعج المتطلب بقائمة طلبات طويلة، وبتململ متصل وبإشكاليات متصلة مع الأجهزة الرسمية. في النهاية (غونتر غراس) قال كلمته ومضى، لاحقته حراب التهم والتخوين، لكنه بات تلك الليلة في منزله، ورأسه في مكانه.