بين عام 1927 وعام 1991 عمر من الكتابة المنحازة للإنسان وأحواله. رحم الله "يوسف إدريس" الذى كان على وعي بدور الأدب فى السياسة والاجتماع والثقافة وفى عقائد الناس. تمر ذكرى ذلك المشاكس فلا يتذكر أحد أحداً، حتى الذين يجوبون الشوارع الآن حاملين الرايات لا يذكر أحدهم يوسف إدريس الذى بشر من قديم بالثورة ، وعبر كتابته الأصيلة كنا نراها تطل من بين قصصه مثل وهج النار. لقد عاش حياته ، منذ مجموعته الأولي .. أرخص ليالي " يفهم ان الأدب فى حقيقته نبوءة تنهض على الاحتمالات ، وتعبيرا عن إيمانه بأن القصة هى الشكل الأمثل للتعبير عن الجماعات المغمورة ، وأهل الهامش ، وأمن بأنها جنس مغلق سرى له لغة تجعله الأقرب إلى الشعر ، وكانت جماعاته التى يكتب عنها بذلك الجمال ، وبتلك الرؤى النافذة : هم الفلاحون والعمال والناس الذين يعيشون على أطراف القرى وضواحى المدن ، البسطاء المثقلة أرواحهم بالألم ، الذين يبحثون عن ملاذ ، ويواجهون سلطة لا تعرف الرحمة أو الغفران. عاش يوسف إدريس طوال حياته منشغلا بتلك المنطقة الغامضة من روح الإنسان العربي التى تزدحم بأسرار التاريخ ، وعمق التجربة الإنسانية ، وظل ينشغل بذلك الصراع الطويل الذى تمثله العلاقة المعقدة بين الفرد والسلطة. يغيب هذا المتجاسر الذى كان صدور مجموعة قصصية له يعد حدثا فريدا في الحياة الثقافية. هكذا عودتنا الحياة العربية .. من يغيب يطويه النسيان ولا يرد غيبته الا عملا جميلا كتبه. كتب يوسف أدريس القصة والرواية والمسرحية وكتب المقالات النظرية النافذة لظواهر الحياة المعاصرة. انجز 12 مجموعة قصصية منها : أرخص ليالى .. حادثة شرف ..العسكرى الأسود .. لغة الآي آي .. وآخر الدنيا. وكتب 7 روايات منها: العيب والحرام ورجال وثيران. كما كتب 7 مسرحيات منها : ملك القطن ، الفرافير ، المهزلة الأرضية والمخططين. وله 19 كتابا تحتوى مقالاته التى كان ينشرها فى الأهرام تحت عنوان " من مفكرة يوسف أدريس" كانت القصة القصيرة سلاحه النافذ لمعرفة الحقيقة ، ومساءلة الواقع ، والبحث من خلالها للنفاذ لأفق من حرية الكائن . كان دائما ما ينظر للقصة باعتبارها بذرة تكمن بداخلها شجرة وارفة يستظل تحتها الانسان. كان دائم الانشغال بالنبش في علاقة الفرد بالسلطة ، وظل طوال عمره تحمل نصوصه ذلك السؤال المريع. أذكر قصته التى لا تنسي "حمال الكراسي" التى كتبها فى الستينات فى عز سطوة العسكر الذين كانوا يرفعون صوتاً واحداً في كل الأنحاء العربية : لا صوت يعلو فوق صوت الزعيم. كان ذلك الفلاح الضامر المنهك ، الذى أمضّه الجوع والعوز والحاجة لتنفس هواءً نقيا ، كان يحمل على ظهره كرسيا ، يحمله ربما من آلاف السنين ، تكر الأيام وهو يدور به مثل الحيوان تحت النير لا يجد من يخلصه ، ولا من يساعده على القاء الكرسي من على أكتافه ، ولا هو نفسه براغب فى هذا الخلاص ، يدور بالكرسي كأنها لعنة مثل دوران النجوم فى متاهة الواقع المرير. علاقة أزلية من غير حد ، وحلم بالخلاص منها ، أو استدعاء قيم العدل والحرية لتنظيم تلك العلاقة بما يحفظ للإنسان كبرياءه . أذكر انه فى العام 1972 أغتيل الكاتب المناضل الفلسطيني "غسان كنفاني" ..جاء اغتياله وحشيا نفذه العدو الصهيوني بلا رحمة . كنا نجلس على مقهى فى القاهرة لا نعرف ماذا نفعل ، والقاهرة مأسورة بقانون الطوارئ ، وبسنوات الهزيمة ، وشعار سنوات الحسم الذى لا ينفذ .. دخل علينا "يوسف إدريس" بقامته المديدة ، وحضوره الآسر .. وحين رأى الحيرة التى تنتابنا أمر بإحضار القماش وكتب شعارات مناهضة لأمريكا وإسرائيل ، وأقترح مسيرة تسير في شوارع القاهرة .. خرجت المسيرة ترفع الشعارات يتقدمها يوسف إدريس ويتبعه أمل دنقل ونجيب سرور وعبد الحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبدالله ، عدد من كتاب مصر الشرفاء الذين غيبهم الموت ، ولولا يوسف إدريس ما كانت المظاهرة في زمن كانت المظاهرات تعنى مصادرة الكائن وزجه رهن الاعتقال. رحم الله إدريس ، ورحم أيامه..