كنت قد كتبتُ كلمة بمناسبة الذكرى السادسة لبيعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - التي بلا شك امتداد لعهد زاهر، يحدث فيه كل يوم جديد، وترتقي فيه الأمة درجة عالية في سلم الرقي والتنمية، إلا انه عندما سمعت التوجيه الكريم الصادر منه - حفظه الله - الذي يحثنا فيه على الصدق ويؤكد على الجميع بالالتزام به، توقفت عن الموضوع الأول، ليس لأنه لا يستحق ولكن لأن واقع الحال يعكس المرحلة وليس الرؤية كالسماع، ولعل كلمة خادم الحرمين المختصرة في لفظها العظيمة في معناها ودلالاتها قد لامست الضمير وحركت الوجدان، إذ إن الكل يعرف فضيلة الصدق ومكانته، وخادم الحرمين الشريفين عندما أكد على الوصية به قد نطق بفطرته وعكس تربيته هو وإخوانه التي نشأوا عليها وجاءت ثمراً طيباً لغراس مبارك زرعه ورواه الملك المؤسس عبدالعزيز - طيب الله ثراه - فالصدق من أجل الأخلاق وأعظمها وهو منبع الكثير من الفضائل، فمنه يتشعب الوفاء والأمانة والعفة والشجاعة، وله فضيلة لا في الإسلام فحسب بل في جميع الأديان السماوية وهو أساس النجاة من عذاب الله يوم القيامة (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار). وعندما ينعدم الصدق بين الناس تنقلب موازين الخير والشر فيصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً؟، وتسقط المروءة ويتحول الإنسان من مسلم خالص الإيمان إلى إنسان منافق دجال، قال صلى الله عليه وسلم (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، وذكر منها الكذب)، والمحل ليس ذكراً لآيات وأحاديث ذات الصلة، هي خواطر انسابت من نفس تفاعلت مع التوجيه السامي الكريم الصادر من إيمان صادق وقلب مخلص ونفس صادقة في زمن تغيرت فيه الأحوال، وصار الصدق عيباً يلام فاعله، يوصف بالسذاجة وبالحمق أحياناً، بل صار الكذب منهجاً وأسلوب حياة والكذابُ ذكياً وشاطراً ومبدعاً. إن خادم الحرمين - أيده الله - قد أطلق وصيته هذه لأنها نابعة من سلوك شخصي من أعماق ذاته - حفظه الله - حيث إننا أصبحنا نلمس مبدأ الشفافية في صناعة القرار على مستوى القمة وبدأنا نحس بالتفاعل بين الراعي والرعية كنتاج لصدق الكلمة والمنهج، ولم تحتل بلادنا الغالية مكانتها المرموقة التي تليق بها بين دول العالم لولا الله ثم وجود هذا الرجل القائد الصادق الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي يضرب به المثل في الصدق والصراحة والشفافية، حتى أصبح العديد من دول العالم الأول تعول على المملكة وتثق في التعامل معها، ونحن أبناء هذه البلاد المباركة - ننعم بهذه القيادة - حري بنا أن ننهج نهجه ونتبع خطاه ونقتدي به في كافة الأمور، وأولها خلق الصدق والصراحة، فصدق المرؤوس مع رئيسه يساعد على صناعة القرار الصائب ويعين على معالجة أوجه القصور، وصدق الرئيس مع مرؤوسيه ومع من يقدم الخدمة لهم يعزز الثقة بين المواطن والدولة ويقوي أواصر الولاء للوطن والقيادة، ويكون المسؤول «أيا كان منصبه» ضعيفاً مهزوز الشخصية مرتبكاً لا يستطيع إدارة عمله على الوجه الأكمل ولا يكسب ثقة مرؤوسيه وولائهم وإخلاصهم له، إذا لم يكن صادقاً في عمله وتعامله مع القيادة والمواطن، وعدم صدق المواطن في تعاملاته مع نظرائه يوجد الشك بين الناس، ويقطع أواصر المحبة ويضعف كافة جوانب الحياة سواء الأمنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وكذلك الحال في عدم صدق المواطن أو المراجع مع الجهات الحكومية ينتج عنه قرارات خاطئة وظلم للآخرين وإشغال للدوائر الحكومية والمسؤولين فيما لا طائل من ورائه، رغم أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، وما قامت الحضارة الغربية وتطورت ووصلت إلى ما وصلت إليه لولا الثقة التي نشأت بين الناس والدوائر ذات العلاقة بمصالحهم منطلقة من صدق المعلومة ووضوح الهدف. وقد يرى البعض أنه قد يضطر إلى الكذب -أحياناً- وعدم قول الحقيقة، لأن الأمر يتطلب ذلك؛ بزعمه تحقيق هدف يراه سامياً سواء في خدمة الوطن أو الآخرين، ناسياً أو متناسياً أن من كذب مرة لن يوثق به مرات، ومن ضلّل مرة فسيكون مجالاً للشك مدى الحياة، وإذا كان من الصعب أن يكتسب الإنسان الثقة، فإنه من السهل أن يفقدها، بل قد يستحيل عليه استعادتها. إن المجتمع المبني على الكذب في تعاملاته، والنظام الحكومي القائم على المغالطات في إجراءاته؛ يبنيان دولة مهزوزة تنتشر فيها الإشاعات، ويكثر فيها المرجفون، ويعظم فيها الفساد، وينخر العفن أركانها، وتصبح كالشجرة الجوفاء؛ تسقط عندما تواجه الريح، وتحترق عندما تطالها شرارة من نار. وفي الختام فإن المجال يضيق بالحديث عن موضوع مثل هذا وإنما هي خواطر حركتها دعوة رجل مخلص وهو خادم الحرمين الشريفين، أجد نفسي أمامها عاجزاً عن التعبير عنها بقدر ما أنني أدعو إلى الاقتداء بصاحبها، فهو رجل صادق حرص أن يحيط به رجال صادقون، وحري بالجميع أن يتمسكوا بدعوته النابعة من تعاليم الإسلام وفضائل الأخلاق وأن يكونوا صادقين مع أنفسهم ومن ولاهم الله أمرهم. والله ولي التوفيق. *وكيل وزارة الداخلية