عندما رأيته تذكرت خارطة فلسطين. كان الشاب طويلاً فعلاً، وعندما عرفت أنه فلسطيني وأنني كنت على حق عندما رأيت فيه ذلك الوطن. تذكرت ذلك الجغرافي العربي الذي عندما رأى مدينة حائل، قال إنها «تمتد مثل يد المصافح». وبالعودة إلى ذلك الشاب الطويل، فإنه كان يتفاوض مع صاحبة مكتبة عربية قريبة من معهد العالم العربي بباريس. وكنت في الطريق لحضور ندوة عن مستقبل العالم العربي في ظل ما يمكن تسميته الاحتلال الأمريكي، وهذا ما تردد المسؤول عن الندوة في وضعه عنواناً صريحاً لها. كان الشاب يحمل أعداداً من مجلة مختصرة مليئة وفقيرة. واسمها «زيتونة» تصفحتها بعد خروجه وإذا بها مجلة اتحاد الطلبة الفلسطينيين. وبدت المجلة مكتوبة بلغة فرنسية محكمة وعالية. فرحت واشتريت نسختي وحضرت الندوة وكلما تعثر أحد المشاركين في الوصول إلى أمراض العالم العربي عدت إلى المجلة أتصفحها إلى أن يهتدي مشارك آخر إلى الطريق. والزيتونة إضافة فلسطينية رصينة إلى تلك المجلة الأم التي يحررها الفلسطيني المدهش الياس صنبر. أعني مجلة دراسات فلسطينية، والزيتونة فلسطينية فعلاً وقولاً. وذلك الشاب الطويل جداً يستطيع أن يقف بشموخ أمام اتحاد الطلبة اليهود في فرنسا، وأن يجابهه على هذه الساحة التي طالما تصورها حكراً عليه، لأن الشاب الطويل ورفاقه هم أيضاً من الجيل الجديد الذي يحمل هويته الفلسطينية ويحمل هوية فرنسية تخوله ثقافة ولغة وجنسية بأن ينزل إلى الشارع دون خوف ودون مواربة. من الزيتونة نختار هذه القصيدة عن المنفى وهي من ديوان «حقول الصمت» لصاحبه ماجد بامية، وقد صدر الديوان بالفرنسية عام 2004م والقصيدة بعنوان «رسالة إلى العالم»: «عندما تشرق الشمس، وتضيء دموعي المرّة، أتذكر حُلماً، أن أجدك يا أرضي» المنفى، المنفى الذي يعذب قلوبنا، وينتزع صفحات تاريخنا المنفى الذي يمزقنا، يؤلمنا، يستبيحنا، يرمينا إلى حد الموت، يخنقنا ويحطمنا لاجئ، على أوراقي، لا شيء غير هذه الكلمة لكن ليس لي ملجأ في هذا العالم سوى هذه القصائد التي تعلمتها على هذه الأرض التي تناديني لاجئ، هذا اسمي، هذا تاريخي. لاجئ، مرادف لليأس، للأزهار الذابلة، لأحلام بلا شواطئ، لرسائل بلا عناوين، لكلمات بلا وجود، لأدعية، لوعود فقدت معانيها، المنفى والغياب، عائلتي في كل جهات العالم، وحياتي مبعثرة، لي ذاكرة على كل أثير، وكل موجة تحمل مني دمعة يا وطني هل نسيتني؟ هل تعرف اسمي؟ لقد حملت الريح روحي بعيداً عني غائب لدي المفتاح ولكن بلا بيت إلى متى سأظل لاجئاً إلى متى سأظل رماداً منثوراً في كل القارات.. وكل المحيطات إلى متى أظل روحاً منسية، رقماً، وجهاً، بلا اسم احصاءٌ متشردٌ منذ خمسين عاماً. سأذهب، بلا أمتعة، بحثاً عن بيتي لأدفن في دهاليزه منفاي وكابوسي وسجني. خمسون عاماً وأنا أبحث عن ميناء لروحي، لذكرياتي، لجراحي، وأحلامي، أعرف أنكم لن تعيدوا لي حياتي. ما أتمناه هو أن أعود إلى وطني في نهاية عمري. حدثت من أحب عن الزيتونة، قالت «للفرح أجنحة وللأحزان جذور».