قررت أن آخذ إجازة من عملي إثر وعكة صحية وافقت رغبة في نفسي بالانعزال والانغماس ولو ليوم واحد في الكسل والنوم ، فأغلقت بابي ، وأقفلت جوالي ، ووضعت اريكتي الطويلة أمام تلفاز كبير ، ودفنت نفسي تحت لحاف ضافٍ بعد أن صنعت قهوتي وقربت مني كل شيء ، وبدأت أقلب في القنوات الفضائية ، أبحث عما يشدني ويستوقفني ، ولا يخرجني من هذه العزلة سوى صوت الاذان فأصلي فرضي على سجادة فرشتها بجواري ، ثم لا ألبث أن أرجع سريعاً إلى أريكة الكسل ، قلبت قنوات وقنوات ، فما راعني إلا أن منتصف الليل قد حل وأنا متسمرة أمام هذه الشاشة الساحرة التي كانت تستدرجني من نشرة للأخبار إلى فيلم ثم إلى مسلسل ومنها إلى مسابقات ومنها إلى فيلم وثائقي ، ثم تحولت إلى سيرك وفنون وشعر وندوات وحوارات ، فإذا بيومي كله قد ذهب وأنا سجينة الجسد والفكر والخيال والانتباه ، فضربت كفاً بكف وتعجبت كيف مضى كل هذا الوقت وأنا لا أشعر !!.. ****** أنا إن كنت قد أخضعت نفسي لهذا المعتقل الاختياري ليوم واحد ، فإن الكثير منا دون أن يعلم ، قد دفن نفسه خلف هذا الاعلام الجديد ، سواء كان ذلك خلف شاشات التلفاز والقنوات الفضائية أو خلف صفحات النت والمواقع الاجتماعية ومواقع الدردشة أو مقاطع اليوتيوب ، ساعات لا تعد من ضياع الأوقات والجهد على لا شيء ، سوى قتل الوقت وإزالة الطفش ، ولكنها في الحقيقة سجون اختيارية توضع فيها المجتمعات العصرية فتغسل بها أمخاخها بالإعلام الموجه وبالأغاني الماجنة والأفلام الهابطة ومشاهد العنف والعري والجنس المبتذل ، ثم تحشيه بعد ذلك بالتوجيهات المطلوبة والدعايات المرغوبة والتقليعات الصارخة والرغبات المستعرة التي تعطل العقل وتدفن الحياء وتخنق الدين والخلق !!... ****** المصيبة اننا نتلقى هذا الإعلام ونحن مسترخون على أرائكنا اأو على أسرّتنا وكأننا جاهزون نفسياً لتلقي كل مانسمعه فنتقبله بعقولنا الباطنة ، ونتطبع به دون أن نُعمل فيه عقولنا أو ضمائرنا ، فكأنها مناهج سلوكية مقررة سرعان ماتتحول إلى عادات وسلوكيات ثم إلى طبائع للجيل وملامح للعصر ، فمع التكرار يفقد الجسد العاري حرمته ، ويفقد القانون هيبته ، وتفقد الأعراف والأخلاق سلطتها .!!.. ****** حتى وان قدم الإعلام الجديد الأفكار الراقية والفنون الرفيعة والثقافة العلمية ، حتى وإن قدم المواعظ والمحاضرات والعبر ، فسيبقى مايقدمه ضعيفاً جدا أمام أفلام الجريمة والجنس وأغاني التخلع والإغواء ، لأنها بكل سهولة تخاطب الغرائز الحيوانية وقد تزوقت بإطارات بهيجة وأنوار مشعشعة وصور جذابة تغازل النفس بمشتهياتها ورغباتها ، وتواعدها بقضاء لذاتها العاجلة ، فتغلب هذه تلك ، كما يفسد الخل العسل !!... ****** إننا أمام آلة عصرية جبارة قد فرضت نفسها بالقوة ، فيجب أن نتعامل معها بحرفية عالية ، وأن نواجهها برفع درجة الوعي والتربية على الفضيلة والحياء والرقابة الذاتية وحياة الضمير والخوف من الله قبل كل شيء ، فمن لم ينتصر على نفسه فلن ينتصر على عدوه أبداً ، ومن كان عبدًا لهواه فقد خذل نفسه أولاً ، وللحديث بقية ، وعلى دروب الخير نلتقي ...