في عدة مقالات سابقة تحدثتُ بإسهاب عن الدور الرائد والفاعل الذي يقوم به القضاء الإداري لحراسة وصيانة مبدأ المشروعية في جميع أعمال وقرارات الأجهزة الحكومية أياً كان مركزها وموقعها وطبيعة عملها ، وأكدتُ على ما يؤكده غيري جميع شراح الأنظمة ورجال القانون أن سيادة هذا المبدأ تعبر عن التزام الدولة بالعدل في جميع أعمالها وتصرفاتها ، ويعني اطمئنان كل من يعيش على أرضها على حقوقهم وحرياتهم من أن تنتقص أو يُعتدى عليها . المبدأ الصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه ولا الغفلة عن تحقيقه أن القاضي الإداري في المقام الأول حارس للمشروعية ، وأن حراسته لتلك المشروعية تفرض عليه أن يقضي بالتعويض العادل الكافي لجبر الضرر، ومعالجة آثاره مهما كان مقدار هذا التعويض وحماية المشروعية ليست إلا محاربة الفساد التي جنّد خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - جميع الجهود والإمكانات لتحقيقها والقيام بها، وقد سبق لي أن أكدتُ في مقال قديم أن القضاء الإداري أيضاً (عون وعين على الفساد) وأنه من أهم قنوات اكتشاف وتتبّع حالات الفساد، وفضح أساليبها والإعانة على محاربتها والوقاية منها ، وأنه ينبغي أن يقوم ديوان المظالم بهذا الدور - الذي يقوم به حالياً - بشكل أكثر فعالية وأشمل معنى . إلا أنني اليوم أود التنويه إلى مسألة غاية في الأهمية لها ارتباط وثيق بهذا الموضوع ؛ ألا وهي أنه يحدث أحياناً التباس وخلطٌ بين دور القاضي الإداري في حراسة المشروعية والذي يقوم به من خلال ممارسته لقضاء الإلغاء للقرارات الخارجة عن حدود المشروعية ، وقضاء التعويض عن الأضرار المترتبة عليها وفقاً للقواعد المقررة في هذا الشأن ، وبين اعتقاد البعض أن القاضي الإداري ينطلق في نظره لدعاوى التعويض المقامة من ذوي الشأن من قاعدة أنه حارسٌ للمال العام وأمين على حفظه ، وهذا الخلط والفهم الخاطئ أثّر سلباً، وألقى بظلاله على مخرجات الأحكام القضائية الصادرة في دعاوى التعويض ما أدى لإهدار بعض الأضرار اللاحقة بالأفراد إما بشكل كامل أو فرض تعويض عنها لا ينهض لجبر الضرر، ولا تخفيف أثره ، كل ذلك بناءً على هذه النظرية التي لم يسبق أن أقرها أو قال بها أحد المعتبرين من شرّاح الأنظمة . ولا يعني هذا الكلام بالطبع أن يُهدر القاضي الإداري اعتبار حماية المال العام من الضياع بالكامل بمعنى أن يبالغ في تعويض المتضرر بما يزيد على المقدار الواقعي الفعلي للضرر ، أو أن يقضي بتعويض من لا يستحق التعويض ، من منطلق أن الفرد أضعف من الدولة، والدولة أقوى وأقدر على احتمال الخسارة من الفرد ، فكلا هذين المبدأين مرفوض، وكلاهما طرف ليس فيه نَصَف ٌولا عدل. والمبدأ الصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه ولا الغفلة عن تحقيقه أن القاضي الإداري في المقام الأول حارس للمشروعية ، وأن حراسته لتلك المشروعية تفرض عليه أن يقضي بالتعويض العادل الكافي لجبر الضرر، ومعالجة آثاره مهما كان مقدار هذا التعويض متى كان الضرر واقعاً بسبب أفعال وأخطاء أي من جهات الإدارة أو التابعين لها.. ثم إذا ما فرغ القاضي من تقرير هذا المبدأ والحكم به فإنه يستحسن - وكما سبق أن طالبت في مقال سابق - أن ينتقل القاضي الإداري في ذات الحكم بالتعويض إلى العمل على حماية المال العام لكن لا عن طريق بخس حق المضرور في التعويض، وإنما عن طريق التأكيد على الخطأ والمخالفة التي نتج عنها الضرر وتحديدها بدقة، وتحديد من صدرتْ عنه من موظف أو مسؤول ، ليتسنى بعد ذلك للجهات الرقابية أن تمارس دورها في محاكمة هذا المسؤول وإقامة الدعوى الجزائية بحقه (حسب الوصف الجرمي المناسب لخطئه) ثم إقامة دعوى أخرى تأديبية ضده لمعاقبته مسلكياً عما بدر عنه من مخالفة للأنظمة . وبهذين المسلكين جميعاً يتحقق للقاضي الإداري حماية المشروعية أولاً وقبل كل شيء، ثم حماية المال العام المتمثلة في التهيئة لمحاسبة المسؤول الذي تسبب في تكليف خزينة الدولة تعويضاً لم يكن ليلزمها لولا ما ارتكبه هو من مخالفة للأنظمة وذلك دون خلط بين هذين المبدأين، أو وضعٍ لأحدهما موضع الآخر . وتبعاً لهذا فكم ناديتُ وتمنيت أن يعاد النظر مراراً في موضوع ثقافة التعويض، وقضاء التعويض سواء في معناه العام الشامل لكل ضرر يقع على أحد بفعل غيره ، أو معناه المقصود هنا وهو الضرر الواقع على الأفراد بسبب أعمال جهات الإدارة ، وأن تكون إعادة النظر في ذلك شاملةً لمراجعةٍ لكل قواعد ومبادئ هذا القضاء ، أو في نتائجه ومخرجاته ومدى توافقها مع الغاية المقصودة من التعويض في الشريعة الإسلامية العادلة الرحيمة الواقعية، ثم وفق ما انتهت إليه الأنظمة والقوانين العالمية المتقدمة التي وصلت لمستويات رفيعة في هذا الجانب من رعاية وحماية حقوق الإنسان في بدنه وماله وعرضه ونحن المسلمين أولى بذلك منهم . وإحقاقاً للحق أقول إن هناك محاولاتٍ مشكورة ًمن بعض القضاة الذين يحملون هذا الهمّ، ويؤمنون بهذه القناعة ويدركون خطورة وأهمية هذا الجانب وانعكاساته على سمعة الشريعة الإسلامية ونظرة العالم إليها ، إلا أنهم يصطدمون في كثير من الأحيان بالتيار التقليدي القديم وكم أتطلع لليوم الذي تنهض فيه أحكام القضاء لدينا إلى أعلى درجات بسط ثقافة التعويض العادل الواقعي لكل متضرر في المؤسسة على قواعد الشريعة الإسلامية التي أتت بكل ما فيه صلاح البلاد والعباد ودرء الضرر والفساد عنهم وما ذلك على الله بعزيز . والحمد لله أولاً وآخراً هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل.. *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً