القضاء الإداري في كل العالم مستقل تماماً في موضوعه وقضائه عن كل جهات الإدارة فهو يقضي، وجهات الإدارة تدير، ولكل منهما اختصاصه الذي تحكمه حدودٌ يعرفها المختصون ولا تتداخل أبداً . والقول بأن استقلال القضاء الإداري يؤدي إلى وجود حكومة داخل حكومة قول لا يخطر على بال من يفهم طبيعة هذا القضاء والغاية من وجوده. عوداً إلى ما بدأته من مناقشة مقال فضيلة القاضي ناصر الداود (وحدة القضاء) الذي انتقد فيه فصل قضاء المظالم عن القضاء العام انتقاداً تضمن مبالغة وآراءً لا يتفق معه الكثيرون فيهما، واستكمالاً لما سبق أقول : رابعاً : جاء في سياق حديثه قوله:(لم يدرك المناصرون لمبدأ الفصل أنهم سيُقدمون على أحد أمرين لا ثالث لهما.. الأول: أن يستقل القضاء الإداري فعلاً عن جهة الإدارة وعن المؤسسة القضائية العامة، فيُنشئ له مبادئ تخصه بمنأىً عن أي رقابة، فتتكون بذلك حكومة داخل الحكومة، بتنامي ذلك النفوذ شيئاً فشيئاً ليكون جموحاً، فيأتي على القضاء الإداري وقت يتسلط فيه على المال العام، فتظهر أحكام التعويض المبالغ فيها، فترهق ميزانيات الدولة بأعباء تلك الأحكام، وتتعطل منها مسيرة التنمية، إضافة إلى أن ذلك الجموح مدعاة لاختراق ذلك القضاء من كل طامع، فيعود الفصل بين القضاءين على الأمة بتعزيز الفساد القضائي الذي هرب واضعوه منه على نحوٍ أسوأ. الثاني: أن يضعف القضاء الإداري عن مواجهة الإدارة، فيستجيب للاستثناءات والقيود على أعماله، ويستسلم للتدخلات من أصحاب النفوذ المالي والإداري، فيكون أداة طاردة للعدالة ذائدة عن الحق الفطري لكل مستضعف سليب). وهذا الكلام أيضاً كالذي سبقه مليءٌ بالغرائب والحكم بالخيالات والتوهمات والبعد كل البعد عن فهم طبيعة القضاء الإداري الذي ليس الشيخ مختصاً فيه، ولا يُلام في عدم فهمه لكنه يلام لكلامه في غير فنّه ، أما الرد على ذلك فهو : لا أدري عن أي استقلال يتحدث الشيخ في هذا الجزء ، فهو يستنكر أن يستقل القضاء الإداري فعلاً عن جهة الإدارة وعن المؤسسة القضائية ، ويؤكد أن هذا الاستقلال يؤدي إلى أن يُنشئ القضاء الإداري له مبادئ تخصه بمنأى عن أي رقابة ، فتكون بذلك حكومة داخل حكومة ! والسؤال هنا : ما طبيعة العلاقة التي يريدها بين القضاء الإداري، وبين الإدارة ؟ وما المقصود بالمؤسسة القضائية ؟ وكيف يريد فضيلته أن ينشئ القضاء الإداري مبادئه ويقررها ؟ وهل يعرف ما المقصود بمبادئ القضاء الإداري وكيف تتكون ومن أين تُستمد ؟ لو عرف فضيلته المقصود بمبادئ القضاء الإداري وكيف تُبنى ومن أين تُستمد لأدرك أنه لا علاقة لها بتبعية القضاء الإداري لوزارة العدل أو القضاء العام كما يُنادي فضيلته ، فالتبعية في التنظيم لا تعني أن تقوم وزارة العدل أو غيرها بالتدخل في إنشاء وصياغة المبادئ القضائية . فمبادئ القضاء الإداري في الفكر القضائي الحديث تعتبر متماثلة متقاربةً ترجع لقواعد موحدة، وتخضع للتحديث والمراجعة كلما اقتضت مصلحة العدل. والقضاء الإداري في كل العالم مستقل تماماً في موضوعه وقضائه عن كل جهات الإدارة فهو يقضي، وجهات الإدارة تدير، ولكل منهما اختصاصه الذي تحكمه حدودٌ يعرفها المختصون ولا تتداخل أبداً . والقول بأن استقلال القضاء الإداري يؤدي إلى وجود حكومة داخل حكومة قول لا يخطر على بال من يفهم طبيعة هذا القضاء والغاية من وجوده. أما قوله : (إنه يأتي على القضاء الإداري وقت يتسلط فيه على المال العام، فتظهر أحكام التعويض المبالغ فيها، فترهق ميزانيات الدولة بأعباء تلك الأحكام، وتتعطل منها مسيرة التنمية ) فقضاء التعويض يحكمه قواعد ومبادئ القضاء الإداري التي تقوم على أساس تحقيق التوازن بين المصلحة العامة التي تمثلها الإدارة ومصالح الأفراد وحقوقهم المحترمة المصانة في الشريعة والقوانين . ثم إن هذا الكلام لم يفرّق بين أصل استحقاق المتضرر للتعويض، وبين تقدير حجم التعويض فهذا أمرٌ وذاك أمر آخر ، ومتى ثبت حق المضرور في التعويض بموجب قاعدة قضائية شرعية قانونية فيجب تعويضه ، أما قياس مقدار التعويض فأمرٌ مستقل يخضع لعدة قواعد وأسس قضائية لا يختلف فيها القضاء الإداري عن العام بل في المملكة يلجأ القاضي الإداري لقسم الخبراء في المحاكم العامة للاستعانة بهم في تقدير ذلك. وما زال القضاء الإداري في كل العالم، سواء الذي يأخذ بنظام القضاء المزدوج أو الذي يعمل بالقضاء الموحد، يحكم بأحكام التعويض ولم يقل أحد قبل الشيخ الداود : إن أحكام القضاء الإداري بالتعويض تؤدي إلى تعطيل مسيرة التنمية والتسلط على المال العام!!. وفي تناقض واضطراب ظاهرين في نفس السياق الذي يؤكد فيه فضيلته أن استقلال القضاء الإداري عن الإدارة والسلطة القضائية يؤدي إلى تسلطه، وتكون بذلك حكومة داخل حكومة ؛ يعود ليحذر من أن ذلك سيؤدي إلى اختراق القضاء من كل طامع !! سبحان الله ؛ قضاء مستقل عن الإدارة وعن الحكومة وعن المؤسسة القضائية مُستعص عليهما اختراقه ؛ يخترقه كل طامع ؟! إن هذا الأسلوب في التناول ليس إلا ارتجالاً وإلقاء للكلام على عواهنه دون تبصر. ثم يأتي فضيلته فيضع الاحتمال الثاني مؤكداً أنه ليس بعده وبعد الأول احتمالٌ ثالث وهو (أن يضعف القضاء الإداري عن مواجهة الإدارة، فيستجيب للاستثناءات والقيود على أعماله، ويستسلم للتدخلات من أصحاب النفوذ المالي والإداري، فيكون أداة ً طاردة للعدالة ذائدة عن الحق الفطري لكل مستضعف سليب )!! إذاً فالحل الجذري الأوحد في رأي فضيلته أن نحفظ استقلال القضاء الإداري عن الإدارة ونحمي قوته في مواجهتها حتى لا يضعف أمامها فندخله تحت مظلتها ويكون القضاء الإداري تحت مظلة الإدارة (أي المؤسسة القضائية كما يقول) !. خامساً : وفي ختام مقال فضيلته يؤكد أن استقلال القضاء الإداري عن القضاء (العدلي) يعتبر وضعاً شاذاً ويستشهد على ذلك بكلام نقله عن معالي الشيخ صالح الحصين - وفقه الله - وهذا الكلام مردود بما يلي : أنه بالرجوع إلى نص حديث الشيخ الحصين كاملا يتضح أنه جاء في سياق استنكار توزع كثير من الاختصاصات القضائية بين اللجان المفرقة على عدة وزارات ، فهي بذلك خارجة عن مظلة القضاء داخلة تحت مظلة جهات الإدارة ، ولا شك أن وصف هذا الوضع بالشذوذ صحيح ، فالقضاء يجب أن يستقل تماماً عن جهات الإدارة، وأن يوحد تحت مظلة السلطة القضائية ، ويقصد بذلك جميع أنواع القضاء الداخلة في تصنيف القضاء العام ، إلا أن ذلك لا ينطبق على فصل القضاء الإداري عن القضاء العام لأن كلاً منهما مستقل، وفصلهما يخضع لطبيعة كل ٍ منهما ، والقضاء الإداري حين فُصل عن القضاء العام لم يُلحق بأي من جهات الإدارة ، بل مرجعه طبقاً لنظام ديوان المظالم إلى الملك مباشرة وهذا هو الصحيح المتوافق مع الأصل الشرعي والتراث الإسلامي لأن نظر المظالم ومنازعات الأفراد مع جهات الدولة في أصله وظيفة من وظائف الإمام الأعظم كما كان يقوم بها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه ومن بعدهم إلى أن فوضه الإمام إلى قاض خاص يستمد هيبته وسلطته وقوته من الخليفة أو الملك لتحقيق العدل التام بين الناس ورفع الظلم . بل كان كثير من خلفاء الإسلام يعينون لنظر المظالم قاضياً خاصاً يتولى ذلك في يوم محدد في مجلس الخليفة وبحضوره كما هو ثابت في كتب التاريخ والسير، وهذا ما لم يُنقل عن القاضي العام الذي ينظر خصومات الناس بينهم . وعليه فلا وجه أبداً للمقاربة أو المشابهة بين هذا الوضع الصحيح، وبين وضع اللجان التي تسمى لجاناً قضائية أو شبه قضائية وهي تابعة لجهات إدارية، ويفتقر بعضها لمقومات القضاء مثل لجنة المنازعات المصرفية التي يعمل فضيلة الشيخ الداود فيها. أنه على فرض صحة النقل عن معالي الشيخ صالح الحصين وأن معاليه يعتقد أن فصل القضاء الإداري عن العام يعتبر وضعاً شاذاً فهو يبقى رأياً خاصاً بالشيخ ليس حجة على غيره من علماء وكبار القضاة الذين يخالفونه - مع ثقتي بأن الشيخ الحصين لو سُئل تحديداً عن فصل القضاء الإداري عن العام وهل يرى بأنه وضع شاذ لأنكر ذلك فمعالي الشيخ من أفقه الناس بالشريعة وأوسعهم علماً بالقانون - ثم إنه لا يمكن أن يتفق مع ما ساقه الشيخ الداود في ثنايا مقاله من اتهامات خطيرة لمبدأ فصل القضاء.. سادساً : إن من أكثر ما أثار دهشتي وعجبي في رأي الدكتور الداود ووصفه لفصل قضاء المظالم بالوضع الشاذ ، واتهامه له بأبشع الاتهامات التي لا يرتضيها المنصفون ؛ أنه في ذات الوقت ينافح ويدافع باستماتة عن لجنة المنازعات المصرفية - التي ينتقدها أكثر رجال الشريعة والقضاء والقانون - ، وحين كتبتُ مقالاً سابقاً أنتقد فيه افتقار تلك اللجنة إلى مقومات القضاء وشروطه ، وهو ما تعالت أصوات الحقوقيين الناصحين بانتقاده والمطالبة بإصلاحه ، كتب فضيلته رداً علي ّ أعرضَ فيه عن مناقشة رأيي إلى الدخول في لمز شخصي واتهام نيتي وجزم بأنني ما كتبت انتقاد اللجنة إلا لأنني خسرتُ قضية ً أمامها فأنا أبرر إخفاقي ، رغم أنه لم يسبق لي مطلقا الترافع أمام تلك اللجنة ولا أنوي ذلك . بل لم يكتف بذلك وتجاوزه إلى لمز كل الحقوقيين الذين ينتقدون وضع اللجنة المصرفية قائلاً عنهم :" إن الانتقادات الحادة التي تتعرض لها اللجنة من القانونيين : فلعلها من محامين خسروا قضايا موكليهم ، وفاتهم من أجل ذلك ما وعدوا به من أجور" !. إلى آخر ما تضمنه ذلك الرد من تجنّ ومبالغة غير موضوعية . والمقصود هنا هو عقد مقارنة تبعث على الدهشة والعجب بين هذين الرأيين للشيخ الداود ؛ ففصل قضاء المظالم عن القضاء العام وتبعيته مباشرة ً للملك يعتبر عند فضيلته وضعاً شاذاً لا يجوز السكوت عليه ويؤدي إلى فساد القضاء !!. أما لجنة المنازعات المصرفية التي ينتقد الحقوقيون والمنصفون وضعها فتعتبر جهة قضائية يجب احترامها ويحرم انتقادها ولا يجوز التشكيك في سلامة وضعها!. وبعد هذا الاستعراض لما تضمنه رأي فضيلة الشيخ الداود أجدد التأكيد أن قضاء المظالم في المملكة وفصله عن القضاء العام وتبعيته المباشرة للملك، وما يحظى به من دعم لا محدود، وثقة من ولاة الأمر أوصلته إلى مستوى المنافسة أمام كافة المحاكم الإدارية في العالم بما قرره من مبادئ مشرقة، وما له من مواقف مشرّفة في حماية المشروعية وبسط العدالة فهو يعتبر مفخرةً من مفاخر هذه الدولة لا شذوذاً وفسادا قضائيا.. وأسأل الله أن يوفق ديوان المظالم ورئيسه وقضاته لإبراء ذمة ولي الأمر الذي أناط بهم رفع المظالم وحفظ الحقوق وحماية المشروعية، وبسط العدالة على تصرفات وقرارات جميع إدارات الدولة دون استثناء إلا ما استثناه ولي الأمر بنظام صريح فهذا هو المبرئ للذمة وهو ما سيُسألون عنه في الدنيا والآخرة.. والحمد لله أولاً وآخرا.. *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً