د. عبد اللطيف القرني - الاقتصادية السعودية هناك أفكار ومسائل قضائية جف حبرها بتوقف حبر الاجتهاد القضائي فيها وأصبحت الأحكام في بعض الأحيان فيها بعيدة عن الظروف الواقعية وغايات العدل والإنصاف التي يتطلب الاجتهاد إعادة النظر فيها وفق مآلات الشريعة الإسلامية والمقاصد النظامية ولا يجوز أن تبقى رهينة النظر لعهد مضى كان هو المناسب لمرحلة تاريخية لم تعد هي الأنسب مع تغيير مقررات العلل والمعاني المصلحية فالفتوى تتغير حسب الزمان والمكان والعرف وكذلك الأحكام القضائية لا يجوز أن تبقى في سياق واحد مع تغيير الظروف والأحوال وسأطرح بعض الأفكار والمسائل التي هي جديرة بإعادة النظر فيها: 1- هناك فكرة تدور في أذهان بعض القضاة في المحاكم الإدارية في قضايا التعويض وهي أن القاضي الإداري حارس للمال العام ولذلك يتطلب التعويض شروطا تعسفية وتقديرية في غاية الصعوبة ويكون التعويض دائماً بالحد الأدنى ومعلوم أن هذه الفكرة من حيث الأساس لا يصح أن يؤسس عليها القاضي للنظر لأن القاضي محايد في النظر والحكم ولا يصح أن يضع نفسه حارساً للمال العام إنما هو حارس للمشروعية. 2- لم يؤسس الاجتهاد القضائي في المملكة العربية السعودية مبدأ التعويض المعنوي مقارنة بالتعويض المادي مع أن الضرر حاصل في كليهما وقد يصعب قيام التعزير خاصة إذا كان الطرف الآخر شخصا معنويا وليس طبيعيا وبالتالي ينبغي توسيع دائرة الاجتهاد في ذلك خاصة أنه لم يرد من الشرع المطهر ما يمنعه والمصالح المرسلة تقتضي قيامه وورد في السنة بعض الاعتبار له، فمن ذلك ما ورد ورواه أبو رهم الغفاري قال: (كنت أسوق الهدي وأركب على البدن في عمرة القضيّة، وبينما رسول الله ""يسير من الطائف إلى الجُعَرّانة وأبو رهم إلى جنب رسول الله"" على ناقة له، وفي رجليه نعلان له غليظتان، إذ زحمت ناقته ناقة رسول الله""، قال أبو رهم: فوقع حرف نعلي على ساقه فأوجعه، فقال رسول الله"": (أوْجَعْتَني، أخِّرْ رِجْلَك)، وقرع رجلي بالسوط، قال: فأخذني ما تقدم من أمري، وما تأخر، وخشيت أن ينزل فيّ قرآن لعظيم ما صنعت، فلما أصبحنا بالجُعَرّانة خرجت أرعى الظّهر وما هو يومي، فرقاً أن يأتي للنبي ""رسول يطلبني، فلما روّحت الركاب سألت، فقالوا: طلبك النبي"" فقلت: إحداهن والله فجئته وأنا أترقب فقال: (إنك أوْجَعْتَني برِجْلك، فَقَرَعْتُك بالسَّوْط وأوْجَعْتُك، فخذ هذه الغنم عِوَضاً من ضَرْبَتي)، قال أبو رهم: فرضاه عني كان أحب إليّ من الدنيا وما فيها). 3- من المسائل المحرجة في القضاء الإداري توسيع دائرة مفهوم الأعمال السيادية ومعلوم أن التطور القضائي يشهد دائماً تضييق هذا المفهوم قدر الإمكان بحيث لا يتناول الحقوق الوظيفية للأفراد ويبقى ذاك المفهوم متعلقا بالشأن العمومي المرتبط بالأمن الوطني والمصالح العليا التي تتعلق بالاقتصاد القومي والسياسة الشرعية التي هو من مهام ولي الأمر - حفظه الله. 4- من الحقوق المقررة عند فقهاء الشريعة كما نص على ذلك ابن تيمية - رحمه الله - وغيره، مصروفات الدعوى وهي من أنجح الوسائل لدفع الدعاوى الكيدية وهي حق طبيعي لمن كسب القضية سواء حصوله على الحق أو في عقد الخصومة معه واضطراره لحضور جلسات القضاء ولذلك أرى أن توسيع العمل بهذا المبدأ من المصالح ذات الأثر الإيجابي للعمل القضائي ولا يوجد ما يمنع ذلك في الشرع والنظام ومع ذلك نرى البعض يتوقف فيها ويحاول تضييق دائرة الحكم بها أو منعها إطلاقاً. 5- لا شك عندي أن لشخصية القاضي أثرا في تقدير الأحكام ولا يمكن القول إن هناك انفكاكا بين الشخصية والعمل القضائي في ذاتية القاضي ولذلك نرى أحياناً ازدواجية في بعض الأحكام القضائية مع اتحاد المحل والظرف وهذه المشكلة تتفاقم مع زيادة أعداد التعيينات دون تأهيل وتدريب وينبغي الاهتمام بالدورات السلوكية للقاضي التي تعنى بالبرامج العقلية وأدوات التفكير والخريطة الذهنية حتى يتطور القاضي ذاتياً بما يسمح بضبط التوازنات النفسية والعقلية بشخصية القضاة قدر الإمكان. ومن الأمثلة للازدواجية القضائية أن اللجان العمالية وهي في حكم المحاكم العمالية تحكم بالتعويض المعنوي استناداً إلى نظام العمل ومع ذلك لا تكاد تسمع أي حكم في التعويض المعنوي في القضاء العام أو الإداري. إن الاجتهاد القضائي فقهاً ونظاماً يتطلب توسيع أساليب العمل في المكاتب الفنية وإدارات البحوث والقضايا بما يسمح بدراسة المسائل القضائية والترحيب بالأحكام الجديدة وبحثها ومحاولة الوقوف عليها وعمل الاستقراء القضائي بحيث يتطور الاجتهاد القضائي ولا يهمش بالفكر التقليدي الذي لم يعد تطبيقه يتماشى مع قواعد العدل والإنصاف. ومن لطيف القول إن كراسي البحث العلمي في الجامعات معنية بالدراسات القضائية ومحاولة ربط الجانب النظري بالجانب التطبيقي بحيث يصبح الاجتهاد أكثر شمولية وأعظم أثراً في الواقع وهو ما يجعل العدالة مرتبطة بالإحسان وصدق الله إذ يقول (إن الله يأمر بالعدل والإحسان). اللهم انشر لنا من رحمتك وهيئ لنا من أمرنا وأمركم مرفقا إنك على كل شيء قدير.