في رواية همس المجهول للروائية نهلة الثقفي ؛ تتفاجأ منذ البداية بحالتين متقابلتين ؛ حالة الفتاة التي رمزت لها الروائية ب تولين ، وحالة ذلك المجهول الذي لم يكن له اسم مهم بقدر ما كان يضفي للعمل بنصفه الآخر ؛ كونه المجهول الآخر ، فالمجهول الذي يبحث عن الآخر ويريد أن يعرف كنهه ؛ هو مجهول بذاته بالنسبة للآخر . وهكذا تبدأ الرواية متحدثة في البدء عن تولين ، وهي تصف كل شيء تقريبا : حالتها في منزلها وفي السوق وفي العمل . ويتبين لي من هذا الوصف الأخاذ الذي يصافح القارئ منذ بداية الرواية على روائية جيدة ، قادرة على الذهاب بعيدا في مشروعها الروائي ، وهي تدفع بهذه الرواية للمطبعة . يشفُ عن لغة جيدة ، تبتعد عن الابتذال ، ولم تهتز رغم طول ( الليل عند تولين وسيلة لنزع قناعها دون التساؤل إن رآها أحد ، فلها الحق في نزعه ، ولهم الحق في عدم رؤيته ، حيث يغطيها الظلام ، فتذبل عيناها بحرية ، وتتغلق شفتاها عن زيف الابتسامات ، وعن الكلام كذلك ، وكم تتمنى أن تتوقف رئتهاعن التنفس ، ويتوقف قلبها عن النبض لعل الألم يتوقف كذلك ،تتساءل تولين أحيانا لماذا يحر علينا إنهاء حياتنا بأنفسنا ، أليس في الموت وسيلة لإنهاء الذنوب المتلاحقة التي لا نكف عن القيام بها ليلا ونهارا) ص 10 . الفتاة / الطالبة تولين إذا ،هي التي عاشت أحلام الفانتازيا ، وهي تتخيل عالما رومانسيا ، موغلا في المثالية ، تلك المثالية التي لم تحدث إلا في رأسها فقط . وفي المقابل يبدأ ( هو ) واصفا كل شيء تجاهها ( هي ) التي دخل عالمها المثالي ، لكنه هو الآخر عاش أحلاما لم يوقظه منها سوى صوت منبهه الذي يعيده لدوامة الحياة التي لا ترحم . إنّ هذا التعارف هو نسج خيال في خيال ، فلا وجود له إلاّ في مخيلة البطلة ؛ تلك التي يوقظها الجرس من كل هذه التخيلات . وبين تولين، ورانية ، وأمها وبقية الأخوات والصديقات تستمر الرواية ،في الحديث عن الحالة الاجتماعية ، عن السوق وعن الموضة ، وعن هموم ومشاكل البنات بأي حال من الأحوال . لكنّ قمّة الرواية تدور حول الحرمان ، الحرمان من الحب ، والعطف ، والآخر الذي نحتاجه كما يحتاجنا ، تولين هذه التي بدأت الحياة مميزة كما أرادت أن تكون بين صويحباتها ، وبما وهبها الله من عقل ، بدأت تتخيل أشياء وأشياء ، وخاصة بعد أن صارت محور حديث صديقاتها وزميلاتها على حد سواء ! المدرسة ، السوق ، المنزل ، الحياة الخاصة بالفتيات وهي حياة صاخبة بالطبع ! كلها عوامل تدور حولها الرواية مكانيا وتأخذ من دلالاتها ما يمكن أن يمضي بالرواية وبالسرد الذي استمر متماسكا ، ومتكئا على لغة جيدة حتى النهاية . مشكلة تولين ، بطلة الرواية، إنها تبحث عن حبٍ حقيقي في مجتمع ماديٍّ لا يحفل بالحب، مجتمعٍ . وإلى أن يلد هذا الحب أو يأتي؛ تتسلى بحديث زميلاتها الفتيات عن مغامراتهن ، وكيف آل إليه أمر كل واحدة منهن ، فهذه تنتهي علاقتها بالزواج ؛ وأخرى ينتهي بمصير مختلف وهكذا . الرواية التي تتحدث عن مرحلتنا الراهنة ، تقف على التقنيات الحديثة ، وما في الشبكة العنكبوتية ، من الفيس بوك وغيره ؛ لتدخله إلى عالم الرواية ، كوسيلة اتصال وتواصل قوية بين الفريقين ، وبين الفتيات أنفسهن. وفي المقابل : هناك في نفس المرحلة تقريبا ، فريق الشباب ، ببطولاتهم ، وصخبهم ومراهقتهم ، وهكذا تدور الرواية بين الجنسين ، وبين تولين وذاك في نهاية المطاف . وتستمر الحياة ، وتتخرج البطلة من الثانوية العامة ، ويتفرق هذا الحشد من الفتيات ، لكنهن يجتمعن بين الفينة والأخرى في زواج أو ما شابه ، البطلة لا زالت يسكنها ذلك الهاجس الغريب ، وذلك الخيال المجنّح الذي يلتقيها كل يوم ، في منزلها ، وفي ذهابها كل صباح ، تشعر بوجوده ، كما يشعر هو بوجودها ؛ لكن الواقع غير الأوهام . هذا التقابل الغريب في العلاقة بينها وبين الآخر ؛ حرصت الكاتبة على إبقائه متوازيا حتى نهاية الرواية ، وسوف يقود البطلة في نهاية المطاف إلى ما ليس منه بُدٌ ، إلى حتفها .. وتتخلى تولين عن أحلام الدراسة ، والعمل ؛ لتتزوج من شاب ثري يملك مؤسسته الخاصة ، وسِّنة صغير ، لكنّها لم تستطع أن تتكيف مع وضعه وحياته ، فعادت إلى رحلتها مع الحب الذي لم يلد قط ، كان محض خيال ، بدأ مع مراهقة البطلة ، وانتهى بزواجها من سلطان ، هذا الزواج الذي جعلها كقطعة قماش في البيت . ومن بين ركام هذه الفوضى التي تعيشها البطلة؛ يخرج " وليد " ذلك الكائن الخيالي ، يسطع في داخلها من جديد لينتشلها ، ويعيدها لحياة ما قبل الزواج ؛ تلك الحياة التي كانت حالمة إلى حدٍ طاغٍ جدا ؛ جعل البطلة لا تتكيف مع زواجها . لينتهي بها المطاف لحتفها . تولين، أنموذج لفتيات هذا الزمان ، كانت تبحث عن حياة مثالية لم توجد إلا في بطون الكتب الرومانسية والقصص المفرطة في الحياة الحالمة ، أو تلك الأفلام التي تدغدغ وتلهب مشاعر المراهين والكبار على السواء ، ثم تتحطّم كل تلك الأحلام على أرض الواقع . وبين هذا وذاك تنتحر البطلة التي لم تستطع أن تصمد كثيرا أمام هذه التحولات الكبيرة في حياتها . تولين تشبه كثيرا حياة فتياتنا اللواتي يضعن بين كل هذه الظروف الموجعة والموحشة في ذات الوقت . والرواية عموما تبشر بميلاد روائية جيدة ، وإنْ كانت الرواية ( القصة الكبيرة هنا ) لم تخترع لنفسها عالما جديدة ، بل انغمست في الشأن الاجتماعي ، ونجحت في متوالية أحلامها وأحلامه حتى نهاية المطاف . لكنّ الواقع كان غير الخيال الذي نرسمه لأنفسنا عادة في مرحلة المراهقة . وكانت لغتها المكتوبة رائعة ونقية ، وإن كانت الكاتبة تحتاج إلى الإلمام أكثر بتقنيات السرد، لكنها في النهاية أوصلت ، وصوّرت عوالم القصة في مائة وأربعين صفحة من القطع الصغير. الرواية صادرة عن دار فراديس – البحرين