رغم بيئة العدالة الظاهرة والتي تطغى على المشهد الحقوقي في المملكة والمتمثلة في حزمة من الأنظمة والتشريعات المستمدة من الشريعة الإسلامية، والمدعومة بهامش من النزاهة على المشهد الرسمي في أقسام الشرط والمحاكم، إلاّ أن عملية التقاضي في مجال الحقوق المالية على وجه التحديد تمثل اليوم إحدى المهام الصعاب لكثير من ذوي الحقوق المالية الخاصة. وتنطبق المقولة الشهيرة: «ما يضيع حق وراه مطالب» على حال أصحاب الحقوق المالية في المملكة، فهم على يقين بأنهم سيحصلون يوماً على حقوقهم المالية التي يترافعون في سبيلها، إلاّ أن هذا «المدعي» وهو صاحب الحق، ستخور قواه يوماً بعد ما يصيبه الإحباط وهو يسلك الطريق ذاته مرات عديدة، قاصداً منزل خصمه ليسلمه ورقة صغيرة، تحمل رسالة مهذبة من مركز الشرطة أو المحكمة، وقد سبق اسم المدعي عليه مسمى «المكرم»، وتحمل في فحواها جملة رقيقة تقول: «نأمل حضوركم لوجود أوراق تخصكم»، مما يوحي بضعف عامل الصرامة في البدء. وعلى الرغم من أن أصحاب المبالغ المالية الكبيرة قد يكون لديهم هامش مناورة بتعيين محامين للترافع في القضايا المالية وتولي متابعتها لسنوات، إلاّ أن الضرر الحقيقي من دورة التقاضي الطويلة في الحقوق المالية يطال بشكل مباشر الأفراد، خاصةً أصحاب المبالغ الصغيرة، فرجل يريد من آخر مبلغ خمسة آلاف ريال على سبيل المثال، سيقضي هذا الرجل من عمره عاماً وربما أكثر في عملية ترافع ستكون محصلتها النهائية خسارة فادحة، إذا ما تمت مقارنة المبلغ بعدد السنين التي راحت في سبيل تحصيله. وقد أفرزت ظاهرة "عدم الحزم" في عملية منح أصحاب الدعاوى الحقوقية الحصول على مستحقاتهم مشهداً سلبياً، تبرز من خلاله حالات "تؤصل" للخوف من تراجع العدالة، من خلال عزوف البعض عن مواصلة دعواهم، مستخلفين الله فيما لهم من حقوق، وكذا بروز ظاهرة ابتزاز المُدعى عليهم لأصحاب تلك الحقوق، من خلال تقديم عروض كأن يدفعوا مثلاً نصف المبلغ فوراً، أو المناورة مع خصومهم لخوض خمس أو ست سنوات من "الكر" و"الفر" في ساحات المحاكم، مما يجعل بعض أصحاب الحقوق يجنحون إلى المهادنة والانصياع لذلك الصلح المزعوم. معاناة المدعي تبدأ بالمساومة وتنتهي بعد سنوات في المحاكم قراءة المشهد رغم أن الشُرط هي جهات تنفيذية بالدرجة الأولى، إلاّ أن ثقافة المواطنين في مسألة تقديم الشكاوى في القضايا المالية مازالت تعمد إلى تقديم تلك الشكاوى لأقسام الشُرط، وهذا من شأنه كما يقول مختصون أن يزيد مدة دورة التقاضي أمام صاحب الحق، ويرون أنه كان حرياً بمن يتقدم بشكوى مالية أن يذهب إلى المحاكم الشرعية صاحبة الاختصاص، وفي ظل هذا التوجه فإن عملية استدعاء الخصوم تتم بآلية معينة لها وعليها بعض الملاحظات من قبل رجال المحاماة والمستشارين الشرعيين. الزامل: صلح «تقسيط الدّين»الأكثر شيوعاً وإثباتاً عند القضاة وفي هذا الصدد يقرأ "عبد الله الفلاج" -المحامي والمستشار القانوني- المشهد في مسألة إحضار الخصوم بقوله: إن نظام المرافعات الشرعية خص محضري المحكمة بواجب إبلاغ الخصوم بعد إصدار الإبلاغ من قبلها، مع جواز قيام التبليغ عن طريق صاحب الدعوى، مضيفاً أنه لم يترك نظام المرافعات هذا الأمر على عموميته، بل حدد شروط أمر الإبلاغ وكيفيته وزمانه ومكانه بصورة دقيقة وواضحة، وقد راعى في ذلك مصالح الخصوم وحقوقهم، مشيراً إلى أنه حسب هذا النظام، فإنه لا يتم الإبلاغ إلاّ بعد شروق الشمس وقبل الغروب، كما لا يمكن الإبلاغ أيام العطل الرسمية بصورة عامة إلاّ إذا كانت هناك ضرورة وبأمر القاضي، ويتلقى المحضرين معلومات الخصم بواسطة صاحب الدعوى، وهذا الواجب يقع على عاتق صاحبها الذي يجب أن يتأكد من معلومات خصمه حتى يتم إنجاز مهمة تبليغه على الوجه المطلوب. ورقة تبليغ بالحضور إلى المحكمة اختصار الزمن وأضاف: هنا لابد من ذكر أمر هام وهو التأكد من إرفاق نسخة من صحيفة الدعوى مع أمر التبليغ؛ لأن في ذلك اختصار لزمن التقاضي واحتراماً للخصم، ومده بجميع المعلومات المتعلقة بالإبلاغ، كما أنه باطلاعه على صحيفة الدعوى، يمكن أن يحضر إلى المحكمة في التاريخ المحدد، وقد عمل على تجهيز رده وفق ما تم إرفاقه من معلومات في صحيفة الدعوى، محذراً من وجود بعض المماطلين الذين يستغلون هذا الأمر - عند إرفاق صحيفة الدعوى أو عدمه -، حيث يمكن أن يأتي في الجلسة المحددة ويطلب أجلاً للرد، إمعاناً في التأجيل وتطويل أمد التقاضي، ذاكراً أنه في حالة عدم حضور المدعى عليه مع تبليغه التبليغ الصحيح وفي بعض الحالات عدم حضوره لعدة جلسات، يأمر القاضي بإحضاره عن طريق الشرطة، مشدداً على أهمية عدم اللجوء إلى هذا الأمر، مقترحاً أن يكون البديل المناسب مباشرةً بعد التأكد من التبليغ الصحيح، حفاظاً على المصلحة العامة التي تتمثل في وقت المحكمة وحقوق الخصوم، بالإضافة إلى جهود ووقت الجهات الأمنية الأخرى ذات العلاقة، متمنياً أن يجد هذا الأمر الاهتمام اللازم، خصوصاً وقد شهد سلك القضاء طفرة نوعية بإصدار الأنظمة الكفيلة بتحقيق العدالة لجميع الأطراف. عبدالله الفلاج غياب الحزم وأكد على أن غياب الحزم اللازم في حالة عدم الحضور من قبل الأطراف، وعدم العمد إلى إصدار الأحكام الغيابية التي تعد من قبيل الأحكام الحضورية عند إثبات تبليغ المدعى عليه يزيد من استهتار المبلغين بهذا الأمر، واطمئنانهم إلى أن لا عقوبة ستطولهم فيتمادون في مماطلتهم، مطالباً برفع كفاءة المحضرين وتدريبهم التدريب اللازم لأداء عملهم، والاهتمام بهم وتجهيزهم بجميع المعينات التي تساعدهم على أداء عملهم، وكذلك استخدام التقنية الحديثة في تبليغ الخصوم مثل الاتصالات ورسائل الجوال والبريد الإلكتروني، مع اعتبارها وسيلة إثبات على تبليغ المدعى عليه، بالإضافة إلى إسناد أمر تبليغ الخصوم وإحضارهم إلى جهات خاصة، يوكل إليها هذا الأمر مع توضيح اختصاصها على وجه الدقة، وحدود ما يجب على هذه الجهة عمله للقيام بهذا الدور، ويمكن أن يعد هذا الأمر من قبل تقديم توفير الخدمات من قبل الجهة المختصة، شأنها شأن الكثير من الخدمات التي تتعاقد لأجلها الدولة مع مقدميها، مضيفاً أنه من المطالب الحزم مع المدعى عليه بالنص على العقوبات الملائمة، ردعاً له وعبرةً لغيره في حالة عدم حضوره أي جلسة وذلك في حالتين: عند ثبوت تبليغه بالصورة الصحيحة، وعند ثبوت مماطلته وتهربه من المحضرين أو من صاحب الدعوى عند قيامه بتبليغ خصمه بنفسه. الفلاج: عدم إصدار الأحكام الغيابية يزيد من استهتار ضعاف النفوس مراجعة الأنظمة وتمنى أن تقوم السلطة المختصة بمراجعة وتعديل الأنظمة الإجرائية من فترةٍ إلى أخرى، بناءً على الواقع العملي وليس المناقشات النظرية التي تزين وتثري النص من الناحية النظرية فقط، بينما نجد المراجعة العملية تحدد السلبيات وأوجه القصور عند تحويل النص النظري إلى واقع تطبيقي، فيظهر ما يمكن تطبيقه وما لا يتعدى كونه نظرياً فقط، مضيفاً: "رغم أن الصلح خير كما يقال، إلاّ أن حالات الصلح في الأمور المالية والتي تحدث في (ردهات) المحاكم وربما أقسام الشرط، تعد في جُلها حالات إذعان من قبل المدعين لابتزاز ومساومة المدعى عليهم، خصوصاً أن المدعي حتى وان كان على حق ولديه كل مسوغات الحصول على ذلك، إلا أن الخيارات المطروحة أمامه لا تتجاوز في الغالب خيارين اثنين، إما التفريط في جزء من حقه تحت مسمى الصلح، وإما مواصلة الدعوى والصمود لسنوات من الركض بين مكاتب القضاة في المحاكم، وبين منزل خصمه، في عملية استجداء حقيقية لتكرمه بالحضور إلى جلسات المحكمة". عبدالعزيز الزامل تعجيل الدين ويقول المحامي "عبد العزيز الزامل": إن الصلح يقع في الكثير من المعاملات التي تتخذ الطابع المالي، ولذلك عدة أنواع منها التخارج الذي يكون بين الورثة بعضهم البعض، فيتم الاتفاق على صيغة معينة يتخارج من خلالها بعض الورثة من أنصبتهم للبعض الآخر، وكذلك الصلح على إسقاط جزء من الدين وقبول المدين سداد النسبة المتبقية جميعها، وهناك صورة أخرى تتجلى في تأجيل حلول الدين، أي اتفاق الطرفين المتخاصمين على تأخير أجل الدين ليكون السداد في تاريخ محدد معلوم، مضيفاً أنه يمكن أن يكون الصلح قبل قيام الدعوى بين الطرفين وكذلك بعدها، ليتم توثيقه في محضر الدعوى ويصدر به صك يشتمل على جميع ما تم الاتفاق عليه بين المتخاصمين، مشيراً إلى أن هناك صورة بالرغم من قلتها إلاّ أنها موجودة على أرض الواقع، وتتمثل في رغبة المدين تعجيل الدين، فيقوم بمصالحة الدائن على إسقاط بعض الدين مقابل التعجيل في السداد قبل حلول أجله. تنازلات مالية وصلت إلى حد المساومة والابتزاز: «خذ نصف حلالك وإلا انتظر سنين في المحاكم» تقديم التنازلات وحول حقيقة أن بعض المدعين يتنازلون عن مبالغ كبيرة من حقوقهم تجنباً لرحلة المطالبة الطويلة التي قد تستمر لسنوات أوضح "الزامل" أن المسألة في حقيقة الأمر لا يمكن حصرها بصورة مباشرة في تنازل أحد الأطراف أو عدمه، وفي تقديري أن أحد الأطراف يرى بعين فاحصة ويفكر جلياً قبل أن يتخذ قراره بقبول الصلح أو رفضه، حيث يجد نفسه في موقف أفضل بكثير إن قام بقبول عرض الصلح، حتى فيما يتعلق بتحقيق مصلحته الشخصية، فأحياناً نجد أن التاجر مثلاً يفضل أن يحصل على ثلثي ماله أو نصفه من أن ينتظر لسنوات طويلة يقضيها سعياً وراء التقاضي لحل النزاع مع الطرف الآخر، حيث تجده يضع في حساباته جميع المصروفات التي سيتكبدها لتدعيم مطالباته المالية ضد خصمه، بالإضافة إلى ما يمكن عمله باستثمار النسبة التي يتم الاتفاق عليها والعائدة له جراء قبول الصلح، فيجد نفسه واقعياً في موقف أفضل من الذي سيكون عليه عند اختياره متابعة مسيرة المطالبة ورفض الصلح. تقسيط المبلغ وأضاف أن بعض الأطراف المتنازعة لا يندرجون تحت وصف التاجر أو المستثمر، وفي هذه الحالة يقوم باختيار التنازل عن جزء من أموال المطالبة اختصاراً لزمن الخصومة، ذاكراً أنه في هذا الإطار أيضاً لسنا ببعيدين عما ذكر في الجزء الأول، حيث لابد من الأخذ في الاعتبار جميع النفقات التي سيتكبدها الدائن في سبيل تدعيم مطالبته وإثباتها، مضيفاً أن أكثر أنواع الصلح شيوعاً هو الصلح على تقسيط الدين، حيث يطلب المدين من الدائن خارج إطار المحكمة أن يقوم بدفع مبلغ المطالبة على أقساط، وهذا أقصى ما يعتبره حلاً وسطاً بالنسبة إليه، فيقوم الدائن بالموافقة على طلبه، ليقدمان بذلك مقترحاً إلى القاضي الذي يقوم بتدوينه في محضر الدعوى، ويقوم بإصدار الحكم بناءً على ذلك، مبيناً أن القاضي في مثل هذه الحالة دائماً ما يضيف إلى الحكم سواء بطلب من الدائن أو بدونه، حلول كامل مبلغ الدين عند تخلف المدين عن سداد قسط أو قسطين أو نحو ذلك في الأجل المحدد لسداده، لافتاً إلى أن هناك نوعاً آخر عندما يتفق الطرفان المتخاصمان على إسقاط جزء من الدين بشرط السداد الفوري للنسبة المتبقية، وهذا ما يقع تحت معنى التنازل المباشر من قبل الدائن لتفادي التأجيل والانتظار، إذ أن هناك بعض أصحاب الأنفس الضعيفة التي تدخل من باب الصلح بنية إسقاط جزء من الدين المترتب عليها، مستغلةً للظرف الذي يمر به الدائن وما يتبعه من طول إجراءات التقاضي وتنفيذ الحكم، مؤكداً على أن هذا النوع من الصلح وإن صح قضاءً إلاّ أن به محاذير شرعية.