ولدنا ونحن نسمع من يقول لنا : اقرأ .. قلنا : ماذا نقرأ ؟ .. قالوا : اقرأ ما تقع عليه يداك ، قرأنا دندش العجيب ، وطه والطبلة ، والقرد وقطعة سكر ، وبعدما كبرنا قليلا فتشنا عما نقرأه بعد سيد قطب وسعيد حوّى وخالد محمد خالد وحسن البنا .. وجدنا بعض أنيس وطه وإحسان ونجيب والحكيم وباكثير وعبدالحليم عبدالله ، وحينما أردنا أن نقرأ بشكل أكثر جدية وعبرنا الحدود إلى بعض الأقطار المجاورة .. وجلبنا ما نعتقد أنه يستحق أن يُقرأ .. كانت لنا وزارة الإعلام بالمرصاد .. فصادرت منا ما اشتريناه وأجابتنا : سنفسح لكم ما يجب أن يُفسح ، ونصادر ما لا يحق لكم قراءته ! ، وفي النهاية صادرته كله . بلعنا الموقف على مضض ، ونحن نستشعر ذلك الفراغ من جوعنا الثقافي الذي لم يُسدّ ، وبقينا كناقصي ثقافة نريد أن نشارك الآخرين في حواراتهم .. لكننا سرعان ما نكتشف أننا بأحاديتنا الثقافية أعجز من أن نجد مكانا لأيدينا أمام مايكرفون حوار .. فتارة نربعهما كتلميذ مطيع ، وأخرى ندسهما في جيوبنا الجانبية لنخفي فيها رجفة الخوف والعوز الثقافي ، تجرعنا كل هذا النقص الثقافي على علاته ، بانتظار موعد جديد نلتقي فيه مع الكتاب دون أن يُحاسبنا عليه أحد كخلوة غير شرعية ، وطالت مدد إقامتنا في بعض العواصم لنقرأ ما لا يسمح الرقيب لنا بإدخاله معنا !! ، وحين جاء الفرج بعد أن تنبه الرقيب إلى عبث ما يفعل في ظل وجود النت ، وتسللت الكتب إلى مخادعنا دون الحاجة لاستجداء موظف المطبوعات على الحدود وفي المطارات .. وبدأت العاصمة في تنظيم معارض الكتب الدولية .. سرعان ما اكتشفنا أن الرقيب لم يرم سلاحه ، ولم يلغ وظيفته ولا وصايته ، وإن كل ما حدث أنه استبدل ثيابه .. فبدلا من أن يلبس زي رجل وزارة الإعلام الحاكم بأمرها وسلطتها .. أصبح يرتدي زي الاحتساب فيما بقيت الضحية هي الضحية : (الكتاب والقارىء) . في معارض الكتاب التي نظمت في العاصمة على مدى السنوات القليلة الماضية .. لم تعد الوزارة هي خصم القراء .. خاصة بعدما استبدلت اسمها لتصبح وزارة للثقافة والإعلام ، وبدت أكثر تسامحا .. لكن غريما جديدا للقراء ظهر على الساحة ممسكا بعصاه .. يتمسح بمسوح الدين على ضفاف هيئة الأمر ويقيم لنفسه حق الوصاية علينا ليهبنا فسحة ما يجوز أن نقرأ ، وما لا يجوز أن تراه أعيننا ! . (من يد نشيط ليد نشيط) ما أضخم هذا المثل الشعبي الذي صاغه ذات يوم رجل أمّي لا شأن له لا بالثقافة ولا بالقراءة .. وما درى عن أنه سيكون الأبلغ في التعبير عن حالة المثقف المحلي مع الكتاب .. الذي ما أن تنفس الصعداء مع ارتخاء يد وزارة الإعلام عن شدّ الكتاب من يده .. حتى ظهر له من يحاول أن يمنعه من شرائه في المعرض !! . هل تسمحون لي أن أقول : ما أهون الكتاب في وطن لا تزال قمم جباله تردد صدى أول كلمة نزلت وحياً من السماء لتقول : اقرأ ؟!!.