لا يعرف عالم الشعر العربي المعاصر شاعرًا أثار حوله غبار المعارك مثلما فعل الشاعر والناقد أحمد عبدالمعطي حجازي، وهو في هذا الحوار لا يتخلّى عن نهجه القديم في الحديث بصراحة تبلغ حد «القسوة»، فقصيدة النثر برأيه ناقصة ونصف شعر وخرساء، وكُتّابها يعطّلون قواعد اللغة العربية، أما هجوم كُتّابها عليه واتهامه له بإقصائهم فيصفه ب «الكلام الفارغ».. حجازي يؤكد “الحرية” شرطًا أساسيًّا للإبداع، داعيًا إلى كف أيدي “الأدعياء” الذين يقرأون النصوص الإبداعية من وجهة نظر “فقهية”، مشيرًا إلى أن المملكة العربية السعودية تشهد تطورًا ملحوظًا في حركة الإبداع بما يفتح أمامها أبواب المستقبل المشرق.. العديد من المحاور مع الشاعر عبدالمعطي حجازي في ثنايا هذا الحوار.. نهاية أزمة “إبداع” * إلى أين وصلت الأزمة التي أثيرت حول مجلة “إبداع” التي ترأس تحريرها؟ “إبداع” كانت تصدر شهريًا وتوقفت لعدة أسباب خاصة بالمؤسسة التي تصدرها وهي الهيئة المصرية العامة للكتاب ثم عادت للصدور من حوالي عامين؛ لكنها أصبحت مجلة فصلية تصدر كل ثلاثة أشهر، لكن ما يخص القضية التي رفعها أحدهم على المجلة أثناء نشرها لقصيدة اعتبرها هذا المدعي أنها مسيئة للعقائد الدينية وهذا غير صحيح. لكن المجلة عادت مرة أخرى للصدور مرة كل شهر، وهذا هو الاتفاق الذي توصلنا إلىه مع الدكتور محمد صابر عرب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب. * على خلفية هذه القضية.. كيف يمكن أن نحفظ للإبداع حريته دون المساس بالثوابت؟ حرية الإبداع لا بد أن تكون أيضًا من الثوابت، فلماذا لا يجب أن يكون المبدع حرًّا حتى يستطيع أن يؤدي واجبه. قراءة الجهلاء * ما هو المطلوب من المبدع إذن؟ المطلوب أن يقدم المبدع أشياء لا يقدمها غيره، ويجب أن يبحث عن العمل الذي لم يسبقه أحد إلىه، ولكي يستطيع المبدع أن يقدم عملاً غير مسبوق يجب أن يكون حرًّا لأن المبدع إذا كان مقيدًا من البداية برقابة داخلية لم يبدع شيئًا، وهذا ما حدث في العالم كله في عصور الظلام، وعندما نتحدث عن العصور الوسطى نتحدث عن الموانع والمحظورات التي كانت تحول بين الناس وبين أن يفكروا بحرية سواء في الفن أو العلم والأدب، عندما كان جاليليو يقول: إن الشمس لا تدور حول الأرض وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس كان رجال الدين يقولون له لا بد أن تحترم الثوابت، والثوابت في نظرهم كانت عكس ما يقول نهج العلم، وعلى هذا توقف التفكير قرونًا حتى استطاع المفكرون والعلماء والفنانون أن يعلنوا اكتشافاتهم ويدافعوا عنها. إن المجتمع نفسه تطور إلى أن أصبح قادرًا على التميز بين ما يجلب للعقيدة الدينية من احترام لأن العقيدة الدينية شيء والعلم شيء آخر، وأستطيع أن أخلط الجغرافيا والتاريخ والفلك ولا أستطيع أن أخلط بين الشعر والدين لأن الشعر يجب أن لا يفهم على أنه نص فقهي بل الشعر له طريقة يجب أن نقرأها وهو المجاز الذي يتبعه الشعر حتى يستطيع أن ينشد الصورة التي لا يستطيع النثر أن ينشدها؛ ولذلك عندما نقرأ القصيدة والصورة الشعرية يجب أن نقرأها بمنهج التأويل وأن لا نفهم الكلام بمعناه المباشر كما نفهم على سبيل المثال خبرًا أو تحليلاً سياسيًّا منشورًا في الصحف، وإنما نفهمه بمنطق الشعر، ومن هنا أقول إن الجهلاء يريدون أن يقرأوا الشعر كما يقرأون النثر فإذا لم يفهموه رفعوا ضدنا الدعاوى وحاكمونا بتهمة الخروج عن الثوابت. كشف الأدعياء * في ضوء ما تقول.. كيف ترى المشهد الإبداعي حاليًا من حيث الارتباك بين المبدع والرقيب سواء من المؤسسة الدينية أو من السلطة؟ حقيقة الأمر أن المشهد لا يخلو من صعوبات يواجهها المبدعون؛ لكن الحقيقة أننا الآن في حال أفضل لأن الأدعياء الذين ينصّبون أنفسهم مسؤولين عن عقائد الناس ويفتشون في الضمائر ويتكسبون من وراء ذلك هؤلاء أصبحوا مكشوفين أمام الناس ذلك بالإضافة إلى أن الأدباء والمثقفين أصبحوا جزءًا من الدفاع عن حرية الإبداع، وأصبحوا أقدر على مخاطبة الناس وعلى شرح قضيتهم، وهناك الآن منظمات ومؤسسات تدافع عن حق التفكير والتعبير وهو حق من حقوق الإنسان لا يمكن في أي مجتمع مهما كان هذا المجتمع وثقافته أن يخرج على هذا الحق أو أن يعتدي علىه لأنه حق من حقوق الإنسان، والبشر من حقهم أن يفكروا بحرية وأن يعبروا بحرية؛ لأن البشر يمتازون عن الكائنات الأخرى بأنهم عقلاء، والله عزّ وجلّ أعطى البشر شيئًا لم يعطه لغيرهم وهو العقل، طالما أن الإنسان عاقل فهو قادر على التفكير بحرية لأنه قادر على تجنب الخطأ، وأحيانا إذا وقع فيه يستطيع أن يصححه. المثقف والسياسي * وماذا عن علاقة المثقّف بالسلطة في الوطن العربي؟ المثقف سلطة أخلاقية يحاكم ويحاسب السلطة التنفيذية، الفرق بين المثقف والسياسي أن المثقف ينظر إلى المبادئ والقيم الأساسية والمثل العلىا؛ يرعاها ويدافع عنها، بينما رجل السياسة ينظر إلى المطالب اليومية فهو مضطر لأن يكون عمليًا لأنه يتعامل مع عامة الناس الذين يطلبون اليوم أسعارًا مناسبة للسلع الضرورية تتناسب مع دخلهم، وعلى السياسي أن يستجيب ويحقق للناس ما يريدون؛ لكن كيف. المثقف يجب أن يراقب ويحاسب والسياسي، يجب أن يؤدي مطالب الناس لكن لابد أن تكون هذه الطريقة أخلاقية ولا تتعارض ولا تتناقض مع القيمة أو مع مثل أعلى أو دستور، فإذا قال السياسي سوف أحسن مستواكم المعيشي شرط أن تتنازلوا عن الحرية أقول له لا أتنازل عن الحرية وأقول له إذهب أنت وسوف انتخب آخرين يحققون لي ما أريد لكن بالطرق الشرعية وبما لا يتعارض مع الدستور. حق المصادرة * في المقابل لماذا يصادر المبدعون رأي المتدينين وهم قطاع عريض من الجمهور؟ للمبدع أن يصادر رأي من يقدم نفسه على اعتبار أنه مدافع عن العقيدة، وفي المقابل لا يحق للآخر أن يتدخل في العمل الإبداعي لكن يجوز له التعبير عن رأيه فقط، ومن حق أي رجل في الشارع أن يعبر عن رأيه حول قصيدتي، لكن هناك فارق بين رجل الشارع وبين الناقد؛ رجل الشارع يستطيع أن يقول يا فلان أنا لا أفهم قصيدتك وبالتالي أفهمه وهو يفهم أو لا يفهم، هذا يرجع له، ومن الممكن أن تكون لديه وجهة نظر جديرة بالاستماع، ورجل الشارع إذا ذهب إلى صحيفة لنشر ما يريد لا تنشر له لأنه غير مختص؛ لكن الناقد يستطيع أن يكتب، ولا يشترط أن كل رجل دين يجب أن يفهم في الفن. المبدعون يصرخون * لماذا يصرخ المبدعون ويدعون أنهم وحدهم ضحية الرقيب الذي ربما كان محقًّا أحيانًا ، وقد سحبت من الأسواق مؤخرًا مجلة الأزهر بسبب كتاب صدر مع العدد للدكتور محمد عمارة عن تقرير يرد فيه على كتاب تنصيري ؟! أنا لم أقرأ الكتب التنصيرية ولم أقرأ ما كتبه محمد عمارة ولا أقرأ مجلة الأزهر، ولكن أرفض كل وصاية يفرضها بعضهم على الحياة الثقافية تحت أي مبرر، وهناك أسماء ما أنزل الله بها من سلطان تريد أن تفرض وصايتها على الثقافة. الحاجة إلى امرأة * في معظم دواوينك جاءت المرأة بمثابة الملجأ الأول والأخير.. فهل كانت المرأة هي المحرك الأساسي لدخولك عالم الشعر والشعراء؟ الشاعر في سن الخامسة عشر يستطيع أن يعبر عن عواطفه بطريقة ما؛ ففي تلك السن كنت أحتاج إلى المرأة وكانت لدي عواطف نحو الفتيات اللاتي كانت تربطنا بهم صلة قرابة، فلا شك أن التجربة العاطفية الأولي كانت ساذجة جدًّا لأنها كانت فتاة من أقاربنا وكان بيتها بجوارنا وكنت أراها فقط ولا أجرؤ أن أعبر لها عن عواطفي، ولذلك لم يكن أمامي إلا ملجأ واحدًا وهو الشعر لكي أعبر عن عواطفي نحو هذه الفتاة؛ لكن بعد ذلك تمسكت بالشعر، وهي كانت صاحبة الفضل في ذلك، وهي رحلت والشعر بقي، وهذا أفضل شيء. ضد قصيدة النثر * بدأت منذ فترة طويلة حربًا شرسة على قصيدة النثر ورغم ذلك انتشرت القصيدة وأصبح لها رموزها مثل محمد الماغوط وأنسي الحاج.. ألا يدفعك ذلك لمراجعة موقفك منها؟ موقفي من قصيدة النثر أن الشاعر أو من يريد أن يكتب قصيدة النثر هو حر في أن يكتب ما يشاء لكن الذي يريد أن يكتب ما يشاء يجب أن يعترف بحق الآخرين في أن يتذوقوا ما يكتبه أو لا يتذوقونه، وأنا أقرأ قصيدة النثر فإذا كانت جيدة أشهد بجودتها، لكن أقول ما يلي: إنها جيدة من حيث هي قصيدة نثر لكنها ليست في نظري شكلاً شعريًّا يستطيع أن يدخل في تراث الشعر العربي حتى الآن، ربما لا نستطيع أن نتذوقه حتى الآن، لكن أعتقد أن الوزن في الشعر ليس رداء الشعر، لا يكون شعرًا ثم بعد ذلك نضعه في الوزن، الوزن هو طريقنا إلى الشعر واللغة لا يمكن أن تتحول إلى لغة شعرية وأن تخرج من وضعها باعتبار أنها أداة للتواصل وللتفاهم والتعبير عن الأفكار فهذه اللغة النثرية لا يمكن أن تصبح شعرًا إلا من خلال أدوات لابد أن نحترمها كلها وأذكر على سبيل المثال “المجاز” فالشاعر لابد أن يستخدم المجاز في الصور والتشبيهات والاستعارات فهذه هي صور المجاز وإلى جانب هذا لابد أن يستخدم الأوزان لأن الأوزان تخرج اللغة من وظيفتها التي تؤديها في الشارع. إذن علىنا أن نحترم حق الناس في أن يكتبوا ما يشاؤون لكن علىهم أن يحترموا حقي في أن أقرأ بالطريقة التي أقرأ بها، وأن أقول هذا شعر يدخل في إطار الشعر وهذا لا يدخل في إطار الشعر. كلام فارغ * شعراء قصيدة النثر اتهموك باستغلال منصبك لإقصائهم عن محافل الشعر وتجاوزوك بتنظيم ملتقى لقصيدة النثر ردًا على هذا التهميش.. ما قولك؟ هذا كلام فارغ؛ فكيف أقصيهم وأنا لا أملك صحيفة ولا مجلة ولا دار نشر، والمجلة التي أرأس تحريرها أنشر فيها قصيدة النثر وهي مجلة “إبداع” واللجنة التي أنا مقرر لها أقترح في عضويتها من يمثلون قصيدة النثر باللجنة فاطمة قنديل وحلمي سالم وهؤلاء ممن يكتبون النثر، فكيف أقصيهم وعن ماذا، لكن فقط أقصي الرديء عن مكتبتي، فأنا لا أتذوق نصًّا رديئًا وهذا من حقي لكن لا أستخدم سلطاتي في إقصاء أحد خصوصًا إذا كان صاحب موهبة، ولا شك أن بعض كُتّاب قصيدة النثر موهوبون في كتابة هذا النص، وهو شعر ناقص بل نصف شعر وقصيدة خرساء، إنها تستغني عن شرط من شروط القصيدة الكاملة والشعر التام. هروب من قواعد اللغة * وماذا عن مصطلح “النص الجديد” الذي شاع مؤخّرًا وأصبح له أيضًا ملتقى؟ بعض الناس يهربون من قواعد الكتابة، وإذا قلت لهم هذا النص لا ينتمي للشعر ولا ينتمي للقصة يقولون هذا شيء جديد، وعندما أتحدث مع شخص ما من هؤلاء لا أفهم منه ما يقول، ويعلل لي بأنه يتحدث بلغة أخرى، عندها أقول له لكني لا أفهم هذه اللغة. بين مصر وفرنسا * يؤثر عنك قولك “في باريس هناك أكثر من سبب يشعرك بالأمان”.. أليس في مصر من هذه الأسباب شيء؟ أنا أستطيع أن أقدّر باريس، لكن لا أفضلها على وطني لأني لا أفضل مكانًا على وطني، وأقول مثلما قال شوقي: “وطني ولو رضيت بالخلد عنه.. نازعتني إلىه في الخلد نفسي”، وباريس هي مدينة النور وعاصمة من عواصم الدنيا والثقافة، لكن مصر هي أم الدنيا وهي وطني. وما جعلني أن أستمر في فرنسا أن الفرنسيين عرضوا عليَّ أن أعمل مدرسًا في الجامعة، وأدّرس الشعر العربي، وهكذا صارت الأمور 17 عامًا بدأت منذ عام 74، ولم تنتهِ إلا في نهاية 1990، وفي تلك الفترة الطويلة استفدت كثيرًا، وأنا مدين لفرنسا بما حصلته في بلدهم، ولكن هذا لا يجعلني لا أفضل فرنسا على مصر، وحتي لو كان بيتي في الصحراء فأنا أفضل مصر الوطن على كل البلدان. مستقبل مفتوح * كيف تقرأ الحالة الإبداعية والنقدية في المملكة العربية السعودية؟ أنا ذهبت إلى المملكة العربية السعودية آخر مرة منذ شهور، وكنت في جدة، وحضرت التكريم الذي أقامة صاحب الاثنينية الأستاذ عبدالمقصود خوجة، وهو مثقف استطاع أن يلعب دورًا مؤثّرًا في الحياة الثقافية هو وبعض المثقفين الآخرين من جدة ومن المدن السعودية الأخرى، وما رأيته يجعلني أنظر إلى المستقبل بثقة، والمثقفون السعوديون يشاركون بفاعلىة في الحياة الثقافية العربية، وفي العام الماضي دعيت لكي أقدم أمسية شعرية في معرض الكتاب الذي أقيم في الرياض، وفي تلك الزيارة شعرت أيضًا بهذا الشعور من التفاؤل، فالكتب التي أهديت لي تدل على أن المملكة بها حراك ثقافي متميز، وأيضًا النقاش الذي دار بيني وبين الجمهور بعد الأمسية، وقد شاركت فيه النساء كما شارك فيه الرجال، لقد دلّ على تفتّحٍ ومتابعةٍ واتصالٍ بالعالم الحديث والثقافة الحديثة والقبول لفكرة الإبداع وحرية المبدع ومشاركة المرأة إلى غير ذلك من التطورات التي جعلتني أتفاءل وأشعر بأن المستقبل مفتوح وغني وخصب.