يتفاوت هروب الفتيات من منازلهن من 850 - 3000 حالة سنوياً -حسب إحصائية هيئة حقوق الإنسان-، وهو ما دعا المختصين والباحثين إلى معرفة الأسباب والدوافع لهذه الحالات؛ قبل تفاقمها إلى ما لا يحمد عقباه، مؤكدين على أن هروب الفتاة أمر غير مقبول مطلقًا في مجتمعنا، استناداً للشريعة الإسلامية بالدرجة الأولى، وللعرف الاجتماعي ثانياً، مشيرين إلى أن هذه الحالات تستحق الوقوف عليها، ورصد ردود الفعل تجاهها، وتحديداً ردة فعل الأسرة، ونوع العقاب الذي قد ينتظر الفتاة، دون أن يكون هناك بحث للأسباب، ومن ذلك تجاهل الحوار داخل الأسرة. "الرياض" من خلال هذا التحقيق تنشد الوعي المجتمعي تجاه التعامل مع هذه الحالات، وتصويب الممارسات الخاطئة في التعامل معها، وعرض قصص عدد من الهاربات ممن التقينا بهن في دار الفتيات، وفضلن الرموز إلى اسمائهن -وهو ما استجبن له-، إلى جانب البحث عن الأسباب مع المختصين الاجتماعيين والنفسيين، والتأكيد على أهمية الأسرة لتحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي للفتاة. بيت مشحون! "م.ع" خرجت من دار الفتيات، وتم تزويجها بعد خروجها بأسبوعين من رجل في السبعين من عمره ومتزوج مرتين، مع أنها لا تتجاوز 19 عاماً، وتعود قصة هروبها أنها لم تستطع تحمل جو البيت المشحون بالمشاكل، وكان والدها يضرب أمها بعنف، ولا يتركها إلاّ بعد أن يحدث تشوهات في جسدها، وانتقل العنف إلى إخوتها، ناهيك عن بخل أبيها الشديد، وتقتيره عليها، وتقول: "أنا فعلا نادمة على خطئي، لكنه حصل، وزواجي من المسن قد يكون حلاً لمشكلتي، لكن لا أدري إلى ماذا يأخذني هذا الحل؟، لكنني مقتنعة أنه أفضل ولو مؤقتاً من جبروت أبي الذي كاد أن يقتلني، لولا تدخل بعض الأشخاص، وتدبيرهم لزواجي فور خروجي من الدار". نحتاج إلى «حوار واقعي» داخل الأسر و«احتواء المشاعر» دون عنف وتجاوز أساليب «الكبت والتطفيش» معاملة سيئة وفي قصة أخرى ل"ن.ق" تقول: طلّق أبي أمي منذ أن كنت طفلة، فقامت أمي بتربيتي على أحسن ما يكون، ولكن عندما وصلت إلى مرحلة المراهقة تغيرت معاملتها لي بطريقة لا تُصدق، إلى درجة أنها كانت تعاملني ك"جارية"، وعندما لم أتحمل إهاناتها المتكررة وتهديدها لي بالطرد من المنزل أكثر من مرة، قررت ترك المنزل، فذهبت إلى أحد أقاربي ومكثت عندهم فترة من الزمن، إلى أن تمكنت من الحصول على وظيفة وسكن مستقل بلا اهانات أو مضايقات، وهو في نظري هروب من مشاكل أمي. عشت مع جدتي أما "هديل" -18 عاماً- فقد كان بداية هروبها انفصال والديها، وزواج الأب بأخرى، إلى جانب زواج الأم بغير والدها، لتعيش مع جدتها، ولكنها كانت كبيرة في السن ومتشددة، فقررت في أحد الأيام أن لا تعود إلى البيت، واتفقت مع إحدى صديقاتها على الهروب وبعد مرور شهر، ألقي القبض عليها وعلى صديقتها، وأودعت في مؤسسة رعاية الفتيات. د.آل مضواح: «جيل البنات» يعيش تناقضاً بين الواقع والأحلام زوجة الأب وتروي "هند" سبب هروبها، وتقول: سبب تشردي يعود إلى زوجة الأب ومعاملتها القاسية، فهي لا تحبنا، وأخذت تبعد اهتمام والدنا عنّا، مضيفةً: "كان من فرط ذلك يتركنا ننام خارج المنزل، ولا يعرف شيئاً عن حالنا، فأصبحت أكره البيت، وذهبت في طريق غير سوي علّني أنسى الألم!". معايير إحصائية يقول "د. مضواح آل مضواح" -الباحث في علم الجريمة والعقوبة- : هروب الفتيات ظاهرة اجتماعية معروفة عند كل المجتمعات منذ القدم، وهناك معايير إحصائية يتم من خلالها الحكم على أي ظاهرة بأنها تحولت إلى مشكلة اجتماعية، لكنني لا أثق في هذه المعايير، وبالتالي فإن هروب الفتيات في مجتمعنا هو جزء من هذه الظاهرة البشرية، مضيفاً أنه إذا ما أُجريت مقارنة دقيقة تقوم على أساس نسبة عدد الهاربات إلى عدد الفتيات في المجتمع، أمكن معرفة إن كانت هذه الظاهرة قد تحولت إلى مشكلة في مجتمعنا، مشيراً إلى أن هناك خطأ فادحا يقع فيه الباحثون حين يسمون هروب الفتيات في دراساتهم ومؤلفاته وبحوثهم: "جريمة الهروب"؛ لأن معظم حالات الهروب كانت بسبب أن الفتاة وقعت ضحية لجريمة، أو مهددة بأن تكون ضحية لجريمة قادمة. د.الردادي: وسائل الاتصال الحديثة ساهمت في هذه التصرفات الفجوة هائلة جداًّ وأضاف: أن التحولات الحضارية والثقافية والاقتصادية والفقر والبطالة في المجتمع وما يعضدها من مؤثرات على المستوى الإقليمي والعالمي، قد أحدثت تغيراً هائلاً في أساليب التنشئة الأسرية، كما أن الفجوة هائلة جداًّ بين المثاليات التي يسمعها الشباب والفتيات في المساجد والمدارس ووسائل الإعلام، وبين التطبيقات السلوكية غير المطردة معها في كثير من أوساط المجتمع، بل حتى بين بعض من ينعقون بهذه المثاليات دون أن يعوا ارتباطاتها وشروطها في الجانب التطبيقي، وهو ما أحدث تناقضاً وجدانياً كبيراً لدى كثير من أفراد المجتمع، خاصةً ممن هم في سن الشباب، لافتاً إلى أنه لم تكن الوزارات والمؤسسات المعنية بتلافي مثل هذه النتائج السلبية بكفاءة عالية، لا على مستوى التحولات الحضارية، ولا على مستوى "الحيلولة" دون ظهور هذه التناقضات، فهي لم تُعِد الدراسات المستقبلية الهادفة إلى التنبؤ بالمشكلات الناجمة عن هذه التحولات والتناقضات، وما يلزم لمواجهتها من خطط تنموية واقتصادية شاملة، وبرامج وقائية وعلاجية. د.العنقري: وقعن ضحية تربية خاطئة بين الحرمان والدلال.. وأشار إلى أن كثيرا من الفتيات الهاربات لسنَ مجرمات، بل ضحية عدم الوعي المجتمعي على المستوى البنائي والوظيفي، والوعي الأسري في التعامل مع الفتيات وتحديداً في هذه المرحلة. صراحة ونقاش وأكد "د.عوض الردادي" -عضو مجلس الشورى، ووكيل وزارة الشئون الاجتماعية سابقاً- على أن ما يطلق عليه هروب الفتيات ليس ظاهرة، بل هي حالات محدودة وفردية، وقال:"بحكم أننا مجتمع محافظ ويرى في الفتاة خير مثال، وأي تصرف منها يشذ عن هذه القاعدة يكون وقعه كبيرا على الأسرة والمجتمع؛ لأننا لم نتعود هذه الحالات أو التصرفات من قبل"، مضيفاً أن هناك عوامل قد تساعد الفتيات على ترك المنزل، فقد تلجأ عند صديقة لها، مشيراً إلى أن ذلك ليس هروباً بمعنى المخاطرة بالخروج مع شاب أو لأغراض غير سوية، مشدداً على دور الأسرة في تنشئة الفتيات على احترام البيت والصراحة والنقاش الهادئ، وغالباً هناك تصرفات تحصل من الفتيات تحدث بسبب عدم تلبية أي طلب بسيط لهن، كمنعهن من زيارة صديقة، أو لبس معين، فيجدن أن الحل هو الخروج!. د.مضواح آل مضواح وسائل الإعلام ويرى "د.الردادي" أن وسائل الإعلام ساهمت في تنامي هذه التصرفات بما يشاهد على التلفاز، لينخدع الشباب سواء ذكورا أو إناثا بما يشاهدونه بالأفلام والمسلسلات غير المسؤولة، والتي لا تراعي ظروف المجتمعات العربية، مضيفاً: "ينخدعون بأنهم مثال للمجتمعات الغربية وهذا غير صحيح، فمن عاش بالمجتمعات الغربية يرى أنهم ليسوا كما يمثلهم الإعلام، فلديهم قيم ومحافظات في حدود ما يحكمه المجتمع، ومع الأسف فإن بعض القنوات العربية هي من تبث هذه الأمور في المجتمع"، داعياً الأسر بأن المنع ليس كل شيء، لكن لابد من توضيح بأن ما يبث ليس واقعاً، لافتاً إلى أن المحافظة على القيم الإسلامية والعربية يجب التمسك بها أكثر، خاصةً ونحن نعيش صراعا بين الآباء والأمهات الذين عاشوا بطريقة محافظة، وبين الشباب الذين يرون أن هذه التصرفات والقيم قد أكل عليها الزمان وشرب، وبالتالي لابد من التغيير ومن الانفتاح الذي يريدونه، ذاكراً أنه يحدث نوع من الشقاق؛ بسبب عدم الجلوس والنقاش الهادئ الموضوعي، فنحن مجتمع لا نتحاور بل نتخاصم، فنجد الأسرة يعلوها الصمت غالباً، ومتى ما فتح موضوع للنقاش يستمر دقيقة أو دقيقتين، ومن ثم يبدأ الخصام والغضب من كلا الطرفين، حتى في الشارع لا نتحمل بعضنا فلا يوجد تسامح ولا ألفة. د.عوض الردادي تربية خاطئة ويقول "د.سلطان العنقري" -باحث وأكاديمي ومتخصص في علم النفس-: في جميع الحالات والأحوال، هروب الفتيات لم يصل إلى مستوى الظاهرة التي قد تتحول إذا لم تعالج إلى مشكلة، مضيفاً أن الظاهرة مقبولة اجتماعياً؛ لأنها مؤشر على وجود شيء في المجتمع، فهي تنبهنا إليه ومتى ما تمت معالجتها منذ البداية فإنها تنتهي، ولكن غير المقبول هو أن تهمل الظاهرة حتى تستفحل وتتعقد وتتحول إلى مشكلة يصعب علاجها، وبالتالي فإن هروب الفتيات بدون ظاهرة وبدون مشكلة، هو نتيجة لإحدى الطرق الشائعة للتربية الخاطئة والمتمثلة بالتدليل الشديد والحماية الزائدة والتسلط والقسوة، إلى جانب الحرمان العاطفي الإهمال، مشيراً إلى أن أي طريقة من الطرق التربية الخاطئة السابق ذكرها تكون إحدى المسببات الرئيسة لهروب الفتيات، والذي سوف يوصل هذا الأمر إلى مستوى الظاهرة التي قد تتحول إلى مشكلة، إذا لم تكن هناك تربية سليمة قائمة، من قبل الوالدين أو أولياء أمورهم، على تجنب التدليل الشديد. د.سلطان العنقري احترام آرائهم وأضاف: في المقابل يكون التركيز على الاحترام والثقة المتبادلين والحوار وتقبل الأولاد بسلبهم وإيجابهم، بالإضافة إلى احترام آرائهم ووجهات نظرهم، وإذا كانت خاطئة تصحح بأسلوب حواري هادئ راق، بعيد عن التسلط و"التشنج" والانفعال والقسوة؛ لأن هذه العوامل سوف تكون عوامل طرد من المنزل، وليست عوامل جذب؛ بسبب عدم تلمس وتفهم الآباء وأولياء الأمور لمشاكل واحتياجات أبنائهم والمسؤولين عنهم، وبالتالي تجد الفتيات الصغيرات لضيق أفقهن وعدم نضجهن واستقرارهن العاطفي والنفسي، أن الشارع يُعد مكاناً أرحم وأكثر أماناً من البيت، وهذا غير صحيح البتة، فيتلقفهن الشارع الذي في العادة لا يرحم، بل هو أكثر خطورة من قسوة البيت وسوء تربيته. التقنية الحديثة وأشار إلى أن الأمر الآخر الذي قد يساعد على تحويل هذه الحالات الفردية للهروب من قبل الفتيات إلى ظاهرة، هي التقنية الحديثة من هواتف نقالة وقنوات فضائية وشبكة "الانترنت"، ومن هنا فإن على الآباء أن يكونوا أكثر تفهماً لأبنائهم بشكل عام وبناتهم بشكل خاص، فالهروب ليس معناه أن هناك سلوكيات خاطئة سوف ترتكبها الهاربة، بل إنها تبحث عن الأمان والدفء العاطفي المفقودين داخل أسوار البيت، مشدداً على أهمية دور الآباء في معالجة هروب بناتهم على هذا الأساس، واحتوائهن واحتضانهن، فهن يظلن فلذات الأكباد، وهن محتاجات إلى الرعاية وتصحيح الأخطاء في التربية التي يستخدمها الآباء، مشيراً إلى أنهن وقعن ضحية تربية خاطئة، والذي يلام هنا على ذلك الهروب إذا ما حصل هم الآباء وأولياء الأمور فقط لا غير.