«عندما كنت في سن ال16، مكثت سبعة أعوام حبيسة غرفتي لما تعرضت له من ضرب وعنف ومهانة من والدي وإخوتي الكبار، حد حرماني من الدراسة، ولما لم أعد أحتمل المزيد من قسوتهم وظلمهم، قررت الهرب من منزل والدي، فاتجهت إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكةالمكرمة، ومنها إلى دار الحماية التي مكثت فيها ثلاثة أسابيع وجدت خلالها معاملة سيئة من مسؤولات الدار، ما دفعني للهروب مرة أخرى والسكن مع سيدة مسنة تعيش وحيدة في رباط خيري». هذه القصة بتفاصيلها المؤلمة التي ترويها فتاة من مكةالمكرمة رمزت لاسمها ب(ع. س)، لا تعكس حجم مشكلة هروب الفتيات، بل هناك عدد لا يستهان به من الفتيات الهاربات من جحيم العنف الأسري إلى «المجهول». فوفقا لما ذكره عبد الله السهلي عضو هيئة حقوق الإنسان في مكةالمكرمة أن أعداد الهاربات من منازلهن ما بين 850 و3000 حالة سنويا، وفيما كانت دور الحماية وحقوق الإنسان تستقبل حالة واحدة في الشهر، أصبحت تستقبل عشرات الحالات، ما يعكس تزايد أعداد الفتيات الهاربات في الآونة الأخيرة. وكشفت المعطيات أن قضايا هروب الفتيات أقل من 20 عاما، بلغت 19.5 في المائة، كما أن الدوافع من ناحية الرغبة في الهروب بالنسبة للفئة العمرية من 20 عاما فأقل بلغت 33.3 في المائة، و28.7 في المائة للظلم والقهر، 26.3 في المائة للجهل، و24.1 في المائة للتغلب على الفراغ والملل، والإكراه 23 في المائة، والانفعال 19،5 في المائة، وأن أكثر مدينة سجلت أعلى نسب الهروب والجريمة مكةالمكرمة تليها الرياض ثم جدة، وعزت الدراسة ذلك إلى الكثافة السكانية في تلك المدن. وبغض النظر عن الإحصائيات، يظل هروب الفتاة من منزل الأسرة بكل ما ينطوي عليه ذلك من أخطار وضياع، ظاهرة تدق ناقوس الخطر عاليا في المجتمع، وليطرح السؤال نفسه بقوة عن الدوافع الحقيقية التي تقف وراء تصاعد نسب الهاربات في أوساط مجتمع محافظ على القيم والتقاليد، والأسباب التي تدفع ببعض الفتيات لترك أسرهن، وما الدور الذي يمكن أن تضطلع به مختلف المؤسسات التربوية والتعليمية والاجتماعية في التصدي للظاهرة. وهناك المزيد من القصص والروايات داخل أقسام الشرط وهيئة التحقيق والادعاء العام والمحاكم ودور الحماية الاجتماعية ومؤسسات رعاية الفتيات، التي تشير في مجملها إلى أن العنف الأسري، وغياب لغة الحوار، والحرمان العاطفي، والتسلط الذكوري، والتفرقة في معاملة الأولاد عن البنات، قاسم مشترك في معظم حالات الهروب، إلى جانب عوامل أخرى تتمثل في التفكك الأسري والفقر. حالة تحرش وفي حالة أخرى، بدأت معاناة فتاة في مكةالمكرمة عندما توفي والدها وقررت والدتها العيش مع أخيها الأكبر وزوجته، فوجدت السيطرة من خالها الذي ظل يضربها ويجبرها على خدمته وخدمة زوجته، حد التحرش من أحد أبنائه الكبار، ولما ضاقت بهم ذعرا، استعانت بصديقة أشارت عليها بالخروج من من المدرسة والذهاب إلى دار الحماية بعيدا عن تسلط الخال وأبنائه وزوجته، أما والدتها فلم تستطع الكلام خوفا من طردها من المنزل. جحيم الأزواج وتروي (ب. ر) الهاربة من سجن زوجها المتسلط الذي أرغمت على الزواج منه، أنها عندما كانت في ال18 من عمرها أعطتها إحدى صديقاتها رقم شاب للتعرف عليه، حتى وثقت بالخروج معه على أمل أن يتزوجها مستقبلا، فكان أن رجعت لأهلها بجنين في أحشائها، بعد تخلي الشاب عنها، ولكن والدها لم ينتظر حتى تقع «الكارثة» في بيته، بل ذهب إلى الشاب واتفق معه على مبلغ معين من المال للزواج من ابنته تفاديا للفضيحة في مجتمع لا يتهاون في قضايا العرض والشرف والسمعة، وتم الزواج لكنها ندمت عليه، ذلك أن المكوث في بيت أهلها كان أهون عليها من المكوث في بيت زوجها الذي أذاقها ألوان الشتم والسباب والضرب والاحتقار، فقررت الهرب من بيت زوجها إلى حقوق الإنسان لمساعدتها في إيجاد مأوى، فبعثوا بها إلى دار الحماية. زيجات بالإكراه هناء (20 عاما) فتاة في جدة تركت والدتها وأخواتها، لتهرب مع شاب تعرفت عليه عبر منتديات الإنترنت، وغابت عن المنزل ما يقارب الأسبوعين قبل أن يتم القبض عليها وتسوية الأمر من الناحية الشرعية. وليلي (19 عاما) غادرت منزل أهلها هربا من قسوة والدها، فاستنجدت بأول شاب التقت به، ثم سلمت الفتاة نفسها للشرطة، بعدما أدركت فداحة الوضع الذي آلت إليه، إلا أن الشاب أبدى رغبته في الزواج منها أمام والدها، بعدما تم تأديبهما على الوجه الشرعي. وسناء فتاة تم تزويجها من رجل دون رضاها، فما كان منها إلا أن غافلت أهلها، وهربت من منزل أسرتها في مكةالمكرمة إلى جدة متنكرة في زي الرجال وتعرفت على سائق أجرة، وكان لحسن حظها على خلق ودين، فأخذها إلى بيته بين زوجته وبناته، واتصل بأخيها لاستلامها. هاربة في شاليه واعترفت سعاد (25 عاما) أمام المحكمة في جدة أن أباها منفصل عن أمها، وبالتالي افتقدت حنانهما وفي فترة معينة تعرفت على فتيات أخريات، فذهبت للسهر معهن، وبعد أن علم أبوها بأمرها، أراد أن يصحح الأمر، ولكنه زاد الطين بلة فقد أخذها للعيش مع زوجته التي أخذت تعنفها، وكان أبوها يضربها حسب دعواها، بعد ذلك قررت الهرب من بيت أبيها، حتى قبض عليها في أحد الشاليهات، وحكم عليها بالسجن ستة أشهر وأودعت مؤسسة رعاية الفتيات. متنكرة في زي شاب وفي القنفذة، سجلت ملفات الأجهزة الأمنية قصة هروب فتاة في سن ال33 من منزل زوجها، والإقامة مع أربعة رجال في جدة على أساس أنها شاب خليجي لشهرين دون أن ينكشف أمرها كونها كانت ترتدي الزى الرجالي، وكانت تقود السيارة وتؤدي الصلاة في المسجد وتخالط الرجال، قبل أن يتم كشفها وإيداعها السجن على ذمة قضية التغيب عن منزل زوجها وسرقة مبالغ منه وتشبهها بالرجال. منحنى خطير إلى ذلك، يصف الدكتور عبد الرحمن عبد الحميد السميري مدير الحقوق الخاصة في إمارة منطقة تبوك وباحث في علم الجريمة هروب الفتيات بأنه يشكل منحنى خطيرا يستوجب التصدي له، مرجعا أسبابه إلى غياب الحوار داخل الأسرة، ما يجعل الفتاة في حالة قلق نفسي وتفكير مشتت يدفعها لاتخاذ قرار سلبي لضعف الوازع الديني والرقابة الذاتية وعدم الثقة في النفس، بسبب العنف الأسري وكثرة المشاكل بين الأب والأم، ما ينتج عنه جو أسري مضطرب يدفع الفتاة للبحث عن مكان آمن يجعلها ذات شخصية متمردة أو مكبوتة تعاني الحرمان العاطفي والمادي، مشيرا إلى أن المجتمع الخارجي المحيط بالأسرة قد يسهم في انحراف الفتاة إلى ممارسات غير أخلاقية، مثل التعرف على أصدقاء سوء من خلال الهاتف والنت والقنوات الفضائية. ضغوط نفسية وعنف أسري ويعزو وكيل كلية التربية للدراسات العليا في جامعة طيبة في المدينةالمنورة الدكتور نايف بن محمد الحربي أسباب هروب الفتيات إلى الضغوط النفسية والعنف الأسري، ما يدفع الفتاة للبحث عن من يصرف عليها، وقد يكون العنف من خلال منع الأب الفتاة من الزواج بحكم وظيفة الفتاة والحصول على راتبها أو عدم تكافؤ النسب أو ارتفاع المستوى الاقتصادي للأسرة وتعدد زوجات الأب، في ظل انخفاض اقتصادي تعاني منه الأسرة، وعدم وجود القدرة على التربية والتعامل مع الأبناء، فيدفع الفتاة نحو الهروب للبحث عن مكان تجد فيه الاهتمام، كما أن التفكك الأسري أو وفاة أحد الزوجين أو سجنهما، يترك الحبل على الغارب لتتمكن الفتاة من الخروج ساعات طوال ولا ترصد أحيانا، فتظهر سلوكيات على الفتاة منها الهرب والممارسة مع شخص آخر كي يرضخ الأب لرغباتها ويزوجها بمن تريد. مجلس الشورى من جانبه، أكد عضو مجلس الشورى سليمان الزايدي أنه لم تعرض على المجلس أي دراسات أو أوراق عمل تخص موضوع هروب الفتيات، مرجعا أهم أسباب هروب الفتيات للتفكك الأسري والحرية المطلقة، كما اعتبر الإعلام المفتوح أحد أهم الأسباب التي ساعدت على اتساع هذه الظاهرة، لافتا إلى أن دور الرعاية الموجودة حاليا غير مهيأة بشكل صحيح لاستقبال الفتيات الهاربات وتخليصهن من معاناتهن وتهيئتهن التهيئة السليمة للعودة والانخراط في المجتمع. حقوق الإنسان وعلى مستوى حقوق الإنسان، لا يعتقد المشرف على مكتب الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في المدينةالمنورة الدكتور محمد بن سالم العوفي أن هروب الفتيات يشكل ظاهرة في المنطقة بل حالات فردية، تعود أسبابها إلى التفكك الأسري وقسوة الأبوين أو أحدهما في التربية، والتحرش من قبل أحد المحارم، وضعف الوازع الديني والأخلاقي، مشيرا إلى أن الجمعية عالجت خلال ثمانية أشهر منذ إنشائها أربع حالات هروب، تتمثل في اعتداء أب على ابنته بالضرب المتكرر، وعضل أب لابنته وعدم زواجها إضافة لتعرضها للتحرش، وسوء معاملة وعنف أسري وهجر وخلاف، فيما أكد مصدر مسؤول في الجمعية اهتمام الجمعية بقضايا العنف ضد النساء والأطفال ومتابعتها حتى إيجاد الحلول المناسبة لها، مشيرا إلى أن هناك لجنة مشكلة من عدة جهات حكومية تشمل الشؤون الاجتماعية والداخلية والعدل للنظر في قضايا العنف ضد المرأة والطفل. ويعزو عبدالله السهلي (عضو جمعية حقوق الإنسان في مكةالمكرمة) بروز الظاهرة في المجتمع إلى ما تتعرض له الفتاة من عنف أسري، والفارق الكبير بين أفكارها وأفكار أسرتها، وانعدام منهج الحوار، ما يدخل الفتيات في حالة صراع حاد، إضافة إلى بعض العقبات كإكمال نصف الدين والدراسة والفقر، ما يولد الإنفجار فالهروب، مشيرا إلى محاولة البعض إخفاء الظاهرة وعدم الجهر بها حتى تصل إلى مراكز الشرطة وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لا إفراط ولا تفريط ولخصت كل من الأخصائية النفسية في جدة رفعة المطيري، والدكتورة نادية نصير رئيسة مكتب الأمل للاستشارات النفسية والاجتماعية، وعهود ربيع الرحيلي الباحثة في علم النفس والمحاضرة في جامعة طيبة، أسباب هروب الفتيات في ضعف الوازع الديني وسوء أنماط التنشئة الأسرية وجماعة الرفاق بالإضافة لوسائل الإعلام التي تزين للفتاة العالم الخارجي مقارنة بسوء محيطها الداخلي، والحاجة للشعور بالحب والأمن والتقدير متمثلة في إشباع حاجة الفتاة لتقبل الأسرة لكيانها واحترام آرائها ومتطلباتها الشخصية، وزيادة ثقتها بنفسها، وإشباع حاجتها للشعور بالانتماء وليس النبذ والإهمال، وزواج الفتيات الصغيرات بمن هم أكبر سنا. وفيما تؤكد الرحيلي على أنه متى ما تم إشباع هذه الحاجات فلن تلجأ الفتاة لوسيلة أخرى لتعويض ما تعانيه من حرمان، ترى المطيري أن عدم دراسة هذه المشكلات وطرحها للنقاش، قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، فالأسرة دون حنان لا تصبح أسرة وإذا فقدت الفتاة هذا العنصر فإن الكارثة قادمة لا محالة، فالفتاة عندما تهرب تفكر فقط في مشكلتها ولا تفكر في ما سيحدث لها بعد الهرب وكيف ستعيش ولو فكرت في ذلك فلن تهرب على الإطلاق، فعند هروبها لا تعلم أنها ستكون فريسة سهلة للذئاب الذين يصطادون الهاربات، وقد تقع فريسة سهلة لإدمان المخدرات إلى جانب إقامة علاقات غير شرعية، وبالتالي يقبض عليها لتعيش حياتها في السجن، في حين تؤكد الدكتورة نصير أنه متى ما فقدت الفتاة عنصري الحنان والثقة، قد تتعرض لمشاكل تؤدي بها إلى الهرب من أسرتها، وللأسف أن كثيرا من حالات الهروب لا يبلغ عنها من قبل الأهل خوفا من الفضيحة. غياب القدوة وتتفق كل من الأخصائية الاجتماعية مرام مهدي خياط في جدة، والباحثة الاجتماعية في وزارة الشؤون الإجتماعية شادية غزالي، والأخصائي الاجتماعي محمد حمير البلوي وطلال الناشري أخصائي ومدير الخدمة الاجتماعية في مستشفى الملك فهد على أن هناك أسبابا أخرى وراء هروب الفتيات أبرزها عدم وجود القدوة الحسنة داخل الأسرة. ففيما يرى الناشري أن على الأم دورا كبيرا في ملاحظة سلوك بناتها والتعرف على صديقاتهن وعدم ترك الحبل على الغارب، ترى مرام خياط أن انعدام التواصل والحوار الإيجابي، والمشكلات المنزلية الناجمة من الزواج الثاني للأب أو الأم، والتفكك الأسري أحكام قضائية وحول الأحكام الصادرة ضد الفتاة الهاربة، قال مصدر قضائي في جدة إن الأحكام تختلف من حالة لأخرى، ولكن يتم التعامل مع الفتاة بسرية ومحاولة التوصل إلى حل مع الأسرة وتسوية الأمر بينهما لضمان عدم هروب الفتاة مرة أخرى خاصة أننا في مجتمع محافظ، مشيرا أن دخول الفتاة السجن قد يدمرها لأن مجتمعنا لا يقبل مثل هذه القضايا، أما في حالة وجود قضية أخرى وقعت فيها الفتاة بعد الهرب مثل فقدان عذريتها أو الحمل سفاحا أو تعاطي المخدرات، فالحكم هنا يختلف ويتم تحديد الحكم بعد اكتمال التحقيقات ثم تحول إلى القاضي المختص الذي يدرس القضية ويحكم فيها. ليست ظاهرة أرجع وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية للرعاية والتنمية الاجتماعية الدكتور عبد الله بن عبد العزيز اليوسف، أسباب هروب الفتيات إلى الخلافات الأسرية والتحولات التي يشهدها المجتمع وتأثره بالغزو الإعلامي، إلا أن هذا الهروب لم يرق من وجهة نظره لمستوى الظاهرة، موضحا أن الأرقام المتعلقة بهروب الفتيات التي سجلت في العام الماضي لم تتجاوز عشر حالات، وهو رقم لا يمكن أن يذكر مقارنة بدولة يزيد عدد سكانها على 20 مليون نسمة. مشيرا إلى أن الوزارة أجرت دراسات لمعرفة أسباب هروب بعض الفتيات من دور الحماية، كان من نتائجها أن الحالات التي هربت يتميز سلوكها بسلوك التمرد وليست لديها القابلية على الانضباط، ولذلك لم تستطع التقيد بتعليمات الدار، فلجأت إلى الهروب، مبينا أن جميع من يلتحق بدور الحماية أو الدور الأخرى التابعة للشؤون الاجتماعية يخضعون لجلسات مع أخصائيين نفسيين واجتماعيين، لحل مشاكلهم والوقوف على معاناتهم وتذليل الصعاب التي قد تواجههم. هروب الشباب رغم أن مشكلة هروب الأبناء من المنازل موجودة ولا يمكن إنكارها، إلا أن سالم الطويرقي مدير إدارة الإرشاد الطلابي في وزارة التربية والتعليم في جدة لا يعتقد أنها ظاهرة اجتماعية مقلقة تحتاج إلى بحث ودراسة، ولكن في الوقت ذاته لا يمكن الاستهانة بها كمشكلة يعود أثرها على الفرد والمجتمع، مرجعا أسبابها إلى أساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة والدلال والقسوة الزائدتين، ما يهيئ شخصية الطفل لانحرافات فكرية وسلوكية تتمثل في الخنوع والخضوع أو التمرد والخروج على النظام، وكلتا النتيجتين لهما آثارها السلبية، حيث يكون الطالب جاهزا لارتكاب مخالفات سلوكية لإثبات ذاته، فيكون عرضة لتأثيرات الآخرين الذين يجدونه لقمة سائغة يحركونه كيفما يشاؤون، وعندما لا يقدر على مواجهتهم ولا مخالفتهم ولا يرد لهم طلبا، يكون ملكا لأفكارهم ومسايرا لهم وأداة يحركونها كيفما شاؤوا ومتى شاؤوا