ترك مدينته وأهله، وسافر إلى حيث لا يعرف، يبحث عن رغيف يشبع خواء أمعائه، وعن جدار يستر عري جسده، يبحث عن المال ، ليرفع رأسه ، ويشعر أنه إنسانا ، ليحقق حلمه ، أن يرى السماء دون خوف ، ويعلم تماماً أنه مقابل كل ذاك سوف يصبح غريباً ، وما يطمئن له ، انه عاهد نفسه ، أن يعود من غربته وينعتق منها ، ويعيش في أرضه لا كما كان يعيش قبل أن يغادرها ، صفف أحلامه ودسها في حقيبته ، وقبل طلوع الشمس في فجر بارد غادر مدينته . زحفت السنين خلف عمره ، وأوشك البياض أن يغزو سواد شعره ، حينها قرر أن يعود كما كان وعده السابق لنفسه ، وعاد.. لم يجد مدينته كما كانت ، لا جدران صباه كانت كما تركها ، ولا ناسها كانوا هم ناسها ، وجدهم غرباء على نفسه ، يأكلون البرتقال ويرمون قشره، وينظرون أين وقعت القشور.. ويهاب الكل أن يرفع رأسه إلى السماء !!!... طاف في شوارع مدينته ، ومسح بنظراته زجاج المحلات الكثيرة ، اشتم رائحة ليست غريبة عليه ، ووقف في عرض الطريق ، يطوف بنظره يميناً وشمالاً ، تذكر أنه منذ الصباح ، وحين وصوله إلى مدينته ، لم يذق طعم الطعام ، بحث عن مطعم ، وحين وجده ، دخل ، وطلب طعام مدينته الذي كان يعشقه ، وغاب عنه كل تلك السنين ، وحين قُدم له ، أكله بنهم ، حتى صار الطبق الذي أمامه فارغاً ، دفع الحساب وخرج.. هناك وجوه يعرفها جيداً ، لم يجد أغلبها ، ومن وجده لم يعرفه!!!.... شعر أن مدينته ليست مدينته ، وأن ناسه لم يكونوا هم أنفسهم ، جر أقدامه إلى أقرب فندق ، طلب غرفة تكون نافذتها على الشارع ، فهو يعرف أن مدينته لا تستحم في البحر ، فلم يجد ، فاقتنع بما وجد ، فقد كان متعباً ، وليس له القدرة أن يبحث عن مكان آخر. لم يجد راحته في الغرفة ، شعر بأن أنفاسه تتسارع ، وكأنه قد أعتلى سلماً متعدد الدرجات ، أخذ مساحة غرفته جية وذهاباً ، ولم يطق بها صبراً.. لم يشبعه الطعام الذي أشتاق له، شعر بأنه بالفعل جائع ، رغم أنه أكل كثيراً ، ولكن تعجز اللقمة وهو في مكان لا يعرف فيه أحداً أن تشبعه ، هكذا شعر ، وهكذا غادر الفندق.. خرج من الغرفة إلى الشارع ، بعدما دس مفتاحها في جيبه، لا ينوي على شيء ، كل ما فيه ، أنه شعر أن مدينته لا تتقبله ، داس على الأرصفة بلا هدف معين ، شعر بالعطش ، وقف عند متجر صغير ، وقف عند باب المتجر ، ليفسح المجال لرجل أشيب ، له سمات مدينته التي تركها ، ليخرج من المتجر ، دخل ووجد رجلٌ قبيح الهيئة ، ينتظر باقي ما دفعه للبائع ، لم يشعر بارتياح له ، توجس منه خوفاً ، وتردد كثيراً في إخراج المال من جيبه ، لم ينتظر أن تطول نظرات البائع الذي ينتظر منه ثمن قنينة الماء ، دس يده في جيبه وأخرج ثمنها ببطء شديد ، ليسقط مفتاح غرفته أرضا ، أنحى قامته وأخذه ، وقبل أن يرفع رأسه ليمد للبائع ثمن القنينة ، تذكر أيامه السابقة ، حين قرر أن يترك مدينته ، أنه كان يتمنى أن يرفع رأسه إلى السماء بلا خوف ، وقد عاهد نفسه ألا ينحني أبداً !!!... رجع إلى غرفته وهو لا يزال يطوف بعينه هنا وهناك ، كان خائفا من شيء ما ، رغم كل شيء فهو لم يشعر بالأمان ، تذكر سنين غربته ، وتذكر كيف كان يخاف أن يخرج ليلاً ، ولكن نفسه ارتاحت لخوف غربته ، ففي الغربة من الممكن أن تشعر بكل الأحاسيس.. قال لنفسه: = إذا لم أشعر بالأمان في مدينتي ، فلن أشعر بتاتاً بطعم الأمن في أي مكان في العالم ....! وقبل أن تتم أربعة وعشرين ساعة من وصوله إلى مدينته ، كان قد غادرها إلى مدينة غربته، فطعام مدينته لم يشبعه ، ولأول مرة منذ سنين يحني قامته ، لم يجد في مدينته الطيبة التي كان يبحث عنها وكأنها خرجت من مدينته كما خرج الرجل الأشيب من المتجر ، لقد وجد في مدينته ما وجده داخل المتجر ، حينئذ أدرك أن عليه أن يغادر مدينته ، فالخوف يعلم التنازل ، وقد عاهد نفسه ألا يتنازل أبداً ، لذا سافر عن مدينته ، دون نية له في الرجوع مطلقاً..