رغم أن أحد المحاور الخمسة الرئيسية لخطة التنمية التاسعة للمملكة للفترة من 2010م إلى 2014م هو تعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني والمنتجات السعودية في الأسواق المحلية والخارجية ، ورغم أن المملكة تعد من أكبر أسواق المنطقة العربية وأوسعها في النشاط الاقتصادي والتجاري ، ورغم الكثير من الخطوات الإصلاحية التي قامت بها المملكة لجذب الاستثمارات وتشجيع التجارة وإزالة ما يعترض ذلك من عوائق تنظيمية ؛ إلا أنه ما يزال لدينا مشكلة حقيقية تلقي بظلالها على الاقتصاد السعودي وبيئة الاستثمار المحلي والأجنبي ، ألا وهي واقع القضاء التجاري الذي ما يزال يعاني الكثير من الخلل والقصور والعجز عن تلبية احتياجات هذه المرحلة أو مواكبة الزيادة المطردة والنمو العالي في حجم الأعمال التجارية وزيادة أعداد الشركات التي تم تأسيسها محلياً أو دخولها للسوق السعودي . وفي أكثر من مناسبة سبق لي التأكيد على ضرورة المسارعة بإيجاد حلول عاجلة تكفل البدء الفعلي والفاعل في إصلاح القضاء التجاري ، وأقول : البدء ، دون مبالغة لأن من يعرف واقع هذا القضاء يعلم أنه ما من خطوات عملية فعلية تم البدء بها ، وأن كل ما حدث فعلاً يقتصر على التصريحات والوعود التي أصبحت وسيلة للاستهلاك الإعلامي فقط لا غير . وتأكيداً لهذه الحقيقة المرة لا أطالب بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق ، أو عمل دراسات ، أو جمع بيانات ، وإنما يكفي لمعرفة الواقع زيارة واحدة للدوائر التجارية في ديوان المظالم والاطلاع على طريقة سير العمل فيها وسؤال المراجعين عن ملاحظاتهم والاستماع لشكاواهم وما يواجهونه من عقبات في هذا النوع من القضاء . لقد بقي القضاء التجاري منذ صدور نظام القضاء الجديد قبل سنوات ، والذي تقرر فيه سلخ الدوائر التجارية من ديوان المظالم إلى وزارة العدل وإنشاء محاكم تجارية متخصصة ، إلا أن هذا النوع من القضاء منذ ذلك الحين إلى اليوم وهو يعيش حالة من فقدان الهوية ، والمصير المجهول شكلاً ومضمونا . وكأن هذه الحالة لا تكفي ليقوم ديوان المظالم مؤخراً بإلغاء مسميات الدوائر التجارية ودمجها مع الدوائر الإدارية في نفس الترقيم التسلسلي بحيث لم يعد لمسمى الدوائر التجارية وجود وكأنه بذلك يعطي إشارة لاستمرار تبعية الدوائر التجارية لديوان المظالم مدة أطول لا ندري متى تنقضي . إن واقع محكمة الاستئناف التجاري حالياً أنها تشغل حيزاً لا يتجاوز عشرات الأمتار ضمن مبنى ديوان المظالم ، ولكل قاض من قضاتها مكتب لا تتجاوز مساحته قرابة ثلاثة أمتار في مترين !! ثم إذا نظرت إلى تلك المكاتب تجد منظراً يؤذي الناظرين من فوضى الملفات والأوراق إلا أنني اليوم سأتجاوز الحديث عن القضاء التجاري الابتدائي للحديث عن محكمة الاستئناف التجاري ، وأسميها محكمة استئناف تمشياً مع تسميتها الحالية وإن كانت لا تزاول حالياً عمل الاستئناف وإنما ما تزال تعمل عمل دوائر التدقيق السابقة ، ولا أدري لماذا الاستعجال في تغيير المسميات مع أن الحقائق والمضمون ما يزالان كما هما ؟!. وأتساءل هنا وأنا أعلم الإجابة يقيناً : ما هو واقع محكمة الاستئناف التجاري التي تتولى تدقيق أحكام القضاء التجاري في جميع مناطق المملكة ؟ وكم عدد قضاتها ؟ وكم مساحة المكاتب التي تشغلها تلك المحكمة ؟ وكم في تلك المحكمة من مستشارين وباحثين شرعيين ونظاميين ؟ وكم فيها من كتاب وموظفين ؟ ثم في الجانب الموضوعي : ما هو النظام الذي يشكل مرجعية لتلك المحكمة ؟ وهل المبادئ المتعلقة بتحديد الاختصاصات للقضاء التجاري محددة تحديداً دقيقاً شاملاً وحاسماً ؟ أم أنه ما يزال بعض هذه الاختصاصات غير محسوم ومحل جدل ؟ إن واقع محكمة الاستئناف التجاري حالياً أنها تشغل حيزاً لا يتجاوز عشرات الأمتار ضمن مبنى ديوان المظالم ، ولكل قاض من قضاتها مكتب لا تتجاوز مساحته قرابة ثلاثة أمتار في مترين !! ثم إذا نظرت إلى تلك المكاتب تجد منظراً يؤذي الناظرين من فوضى الملفات والأوراق ، وتراكمها وتكدسها وبعثرتها في نواحي تلك الغرفة الضيقة ، بل لا يجد القضاة مكاناً لوضع المعاملات أحيانا إلا فوق الكراسي والطاولات !! وترى ذلك القاضي غارقاً وسط الركام من الورق الذي اعتلاه الغبار بطريقة بدائية تؤثر سلباً في الإنجاز وفي توفير البيئة المناسبة للعمل ، وذلك في ذات الوقت الذي أعلن ديوان المظالم مراراً عن إنجازات ومشاريع في الجانب التقني لتنظيم أعمال الديوان . ولا يوجد في محكمة الاستئناف التجاري سوى ثلاثة أو أربعة كتاب وناسخين أو ثلاثة ، وليس في تلك المحكمة مستشار أو باحث واحد شرعي أو نظامي !!. وإذا سألت عن القضايا التي تنظرها تلك المحكمة تجد القضية تبقى على قائمة الانتظار حتى يصل إليها الدور قرابة سنة كاملة أحياناً قد تقل قليلاً أو تزيد قليلا. ومع هذا كله فإن قضاة تلك المحكمة يعانون كما يعاني غيرهم من القضاة من تكليفهم بأعمال إدارية وإعداد بيانات وكتابة إحصائيات عن القضايا هي من صميم عمل الموظفين وتصد القاضي عن التفرغ لنظر القضايا ودراستها . أما مرجعية عمل القضاء التجاري حالياً فهي ما تزال ترجع لبضعة نصوص قليلة من نظام المحكمة التجارية الصادر عام 1350ه أي قبل توحيد المملكة بسنة !! وذلك فيما يتعلق بتحديد اختصاصات القضاء التجاري وغيره من المواد . وما تزال محكمة الاستئناف التجاري إلى اليوم مترددة في حسم بعض مبادئ اختصاص القضاء التجاري منها ما يتعلق بأعمال السمسرة التجارية أو بعض أعمال المقاولات أو غيرها . ومع كل هذه الظروف والإشكاليات فمحكمة الاستئناف التجاري تعاني كثيراً في مواجهة سيل من أحكام الدوائر التجارية بعد التوسع في زيادة أعداد القضاة، وتعيين كثير من الخريجين الجدد دون أن يحظوا بمرحلة كافية من التأهيل والتدريب والخبرة والملازمة القضائية فأصبحت بعض الدوائر التجارية تفتقر للقضاة القادرين على مواجهة تعقيدات القضايا التجارية الشائكة التي تنظرها في ظل انعدام المستشارين والباحثين والأعوان والآليات المساعدة للقاضي . كما أن هناك إشكاليةً أخرى كبيرة ألا وهي أنه من المفترض بعد صدور نظام المرافعات الجديد لابد من التوسع في افتتاح محاكم استئناف تجاري في كافة مناطق المملكة وفقاً لما قرره نظام القضاء والآلية التنفيذية له ، فمن أين سنأتي بقضاة استئناف تجاري لتغطية هذه الفروع ؟! إن العدد الحالي قد لا يفي بحاجة منطقة الرياض فقط ، فهل سيغطى هذا النقص من قضاة المحاكم العامة ؟ إذا كان الجواب : نعم ؛ فكيف سيكون الفارق بين مستوى أحكام قضاة الاستئناف التجاري ذوي الخبرة من ديوان المظالم، وقضاة المحاكم العامة ؟ وعلى أي مبادئ وأسس ستسير تلك المحاكم ؟ وما مصير المبادئ التي قررتها أحكام القضاء التجاري طيلة السنوات الماضية ؟ هل سيلتزم بها قضاة وزارة العدل أم سيفتحون باباً جديداً للاجتهاد ؟. إن استمرار وضع القضاء التجاري عموما ومحكمة الاستئناف خصوصاً على هذه الحال فيه إضاعة للحقوق ، وإساءة لواقع الاقتصاد السعودي ، والتجارة المحلية ، وأؤكد هنا أن الحلول الجذرية الكفيلة بإنهاء هذه المعاناة وتصحيح هذا الوضع المعوج ّ لا يمكن أن نطالب بها وزير العدل أو رئيس ديوان المظالم وإنما أعتقد أننا بحاجة لمعالجات أعمق وأشمل وليست ضمن إمكان ولا صلاحيات الوزراء ، بل قد يتطلب الأمر تشكيل لجنة عليا تبحث هذه الإشكالات وتتحقق من تأثيرها ، وتضع لها حلولاً يمكن تحقيقها في أقرب وقت وقد يكون من بين هذه الحلول : أعتقد أنه من أفضل الحلول التي تفرضها طبيعة هذه المرحلة وتعتبر إنقاذا للموقف الاستعانة بمستشارين قانونيين من خارج المملكة خاصة من جمهورية مصر العربية من ذوي الخبرة القضائية الجيدة لتشابه النظامين التجاريين السعودي والمصري . وكانت تلك تجربة سابقة لديوان المظالم أثبتت جدواها ونفعها . ضرورة المبادرة في فصل القضاء التجاري عن ديوان المظالم وقيام الكيان المستقل للمحاكم التجارية مما يسهل البدء فعلياً بخطط التطوير والإصلاح التي ستتولاها عندئذ وزارة العدل ولم يعد يخفى ما حظيت به وزارة العدل من خطوات تطوير وإصلاح تقني وإجرائي وغيرها لما يتصف به وزيرها من نظرة ثاقبة وتفهم عميق لمتطلبات واحتياجات تطوير القضاء بما له من خبرة قضائية شاملة أتاحت له ذلك . وأجزم – بإذن الله – أنه لو تم تسليم قياد المحاكم التجارية وتطويرها لمعالي وزير العدل سنرى من النتائج ما نتطلع له جميعاً ، وذلك في الجوانب المنوطة بوزارته من تهيئة المباني المناسبة وتأمين الموظفين والمستشارين الأكفاء ، وتدريب القضاة والموظفين على احتياجات القضاء التجاري ، وتسخير التقنية الحديثة في ضبط إجراءات العمل وطريقة إدارته ، وغير ذلك الكثير . قد يعاد النظر في إمكانية الاستفادة من ذوي الخبرة والتأهيل والفهم والتخصص في النظام التجاري من مستشارين عاملين في قطاعات حكومية أو أهلية أخرى لضمهم إلى القضاة والمستشارين العاملين في المحاكم التجارية إما قضاة أو مستشارين . لابد من إعادة النظر في أسلوب اختيار القضاة الجدد وقبل ذلك تأهيلهم وهل كليات الشريعة ومناهجها الحالية صالحة لتخريج قضاة في القضاء التجاري قادرين على مواجهة طبيعة هذا القضاء وفهم دقائقه ؟ هذه مجرد مقترحات سريعة ومشاهدات لي في واقع هذا القضاء أرجو أن تكون معينة على معالجة ما يواجهه من إشكالات وعوائق أعان الله القائمين عليه على إبراء الذمة ووفقهم لما يحب ويرضى والله سبحانه حسبي ونعم الوكيل . *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً