يخطئ ُ كثير ٌ من المتخصصين حين يتحدثون عن القضاء التجاري معتقدين أنه ينحصر في الدعاوى التي تنظرها الدوائر التجارية في ديوان المظالم ؛ ذلك أن القضاء التجاري يضم منظومة ً واسعة ً من الاختصاصات الموزعة بين عدد من اللجان التي يُطلق ُ عليها وصف : " لجان شبه قضائية " وهذا الوصف في الحقيقة، وإن كان وارداً في الآلية التنفيذية لنظام القضاء ونظام ديوان المظالم إلا أنه عند التأمل يتبين مجانبته للصواب إذ ليس هناك قضاءٌ وشبه قضاء وإنما هو قضاءٌ متكامل يتوافر على كافة الضمانات القضائية والأصول المتبعة في القضاء العادل ، أو لجانٌ إدارية أو استشارية فقط لا تأخذ الطابع القضائي ، ولذلك فإن التعامل مع كثير من تلك اللجان على أساس أنها شبه قضائية يعتبر خللاً يستوجب التصحيح. إن الوقائع الكثيرة تشهد بضعف القضاة في المحاكم العامة في جانب تحديد طبيعة اختصاصات القضاء التجاري على وجه الدقة إذ حدث كثيراً امتناعهم عن نظر دعاوى بحجة أنها تجارية. إلا أن هذا ليس صلب الموضوع اليوم وإنما أردتُ القول : إن القضاء التجاري يشمل عدداً من الاختصاصات الموزعة على الدوائر التجارية في ديوان المظالم وعلى غيرها من اللجان الكثيرة مثل قضايا الأوراق المالية والمنازعات المصرفية، والأوراق التجارية والتأمين والملكية الفكرية والغش التجاري وغيرها . وبعد صدور نظام القضاء الجديد قرر إنشاء محاكم تجارية مستقلة تابعة لوزارة العدل وسلخ الدوائر التجارية من ديوان المظالم بقضاتها وموظفيها إلى تلك المحاكم بعد قيامها ومباشرتها لأعمالها ، ومع أن القيام الفعلي للمحاكم التجارية وتنفيذ ما صدر به نظام القضاء الجديد قد تأخر كثيراً إلا أن هناك إشكاليةٌ حقيقية تنتظرُ تطبيق هذا التوجه الجديد وهي أن الأحكام التجارية التي صدرت طيلة السنوات الماضية في ديوان المظالم تحتوي إرثاً كبيراً مشرّفاً من المبادئ القضائية في القضاء التجاري أصبحتْ مستقرة ومُسلّماً بها لدى قضاة الدوائر التجارية وقضاة الاستئناف التجاري ، وفي حال جرى البدء بالعمل في المحاكم التجارية الجديدة فإنه سيصبح لدينا إشكاليةٌ في مدى توافق القضاة القادمين من وزارة العدل الذين سيتم تعيينهم أو نقلهم من القضاء العام مع تلك المبادئ القضائية المقررة طيلة السنوات الماضية في أحكام الدوائر التجارية في ديوان المظالم ومدى قبولهم لإعمالها والأخذ بها في أحكامهم أو التوجه إلى اطّراحها ونبذها والسير وفقاً لاجتهادات فردية كما هو معمولٌ به في محاكم القضاء العام حالياً إذ يذهبُ كل ّ قاض في اجتهاد يخالف زميله في قضية مشابهة مما يُحدث التباين الشديد في الأحكام . ولعل مما يزيد هذه الإشكاليةَ عمقاً ما يلي : - أنه مع كون قضاة ديوان المظالم وقضاة وزارة العدل جميعهم من خريجي كليات الشريعة إلا أن الظروف التي عمل َ فيها كل ٌ منهما، وطبيعة القضاء الذي التحقا به جعل َ قضاة ديوان المظالم أكثر تميزاً من غيرهم في التعاطي مع الأنظمة والمبادئ والقواعد القانونية وقبولاً لها وقدرة على فهمها والاجتهاد في محيطها ، بينما أمضى قضاة وزارة العدل عشرات السنين يرفضون تماماً التعامل مع كثير من الأنظمة، وينفرون من ذكرها أو الاستشهاد بها أو احترامها ، وقد يتضح أثر ذلك جلياً في نظر الدعاوى المتعلقة بنظام الشركات أو نظام الإفلاس أو العلامات التجارية أو غيرها من أنظمة لست أتصور كيف يستطيع قضاة القضاء العام التعامل معها أو كيف ينظرون إليها وإلى مدى إلزام قضائهم بها ؟! - أنه لم يعد سراً أن قضاة وزارة العدل مضى عليهم زمن طويل ينظرون لقضاة ديوان المظالم على أنهم مجرد مستشارين قانونيين، وأنهم ليسوا قضاة بالمعنى التام لكلمة ( قاضي ) بل إن كثيراً من زملائنا قضاة المحاكم تفاجأوا حين علموا أننا نساوي لهم في الكادر الوظيفي ، وهذا بلا شك سيكون له أثر على قبولهم لما أنتجه قضاة ديوان المظالم أو أسسوه في أحكامهم التجارية طيلة السنوات الماضية بل قد يأنف بعضهم أن يسير على تلك المبادئ ويعمل بها في أحكامه فيتعمد الحكم وفق اجتهاده الشخصي مما سيوقع بلا شك في اضطراب كبير في هذا النوع من القضاء. إن الوقائع الكثيرة تشهد بضعف القضاة في المحاكم العامة في جانب تحديد طبيعة اختصاصات القضاء التجاري على وجه الدقة إذ حدث كثيراً امتناعهم عن نظر دعاوى بحجة أنها تجارية وهي ليست كذلك أو نظرهم لدعاوى ذات طبيعة تجارية وإصدار أحكام بها وهذه الإشكالية في تحديد الاختصاص قد توقع في الحرج حين يصبحون قضاةً في القضاء التجاري مع القضاة المنسلخين من ديوان المظالم مما قد يؤدي إلى تباين أحكام محكمة واحدة في جانب الاختصاص النوعي . - أن الذي يظهر في التوجه القادم أن المحاكم الاستئنافية للقضاء التجاري ستكون أيضاً مكونة من قضاة الاستئناف التجاري المنسلخين من ديوان المظالم ومن المعينين من قضاة وزارة العدل وهذا سيسهم في امتداد تلك الإشكالية على مستوىً أعلى من المحاكم التجارية الابتدائية، وهو ما سيكون أسوأ أثراً لأنه يفترض ُ في محاكم الاستئناف أن تقلل من تباين الأحكام وتناقضها لا أن تسهم في زيادة ذلك . وإذا كانت تلك الإشكالية كما أشرت ُ قائمة في حق أحكام القضاء التجاري التي أصدرها ديوان المظالم طيلة السنوات الماضية فإن الإشكالية ستكون أكبر وأخطر في التعامل مع ما صدر عن اللجان المتخصصة بنظر الاختصاصات الأخرى للقضاء التجاري التي أسستها أحكام تلك اللجان منذ إنشائها ، ومع الحساسية الشديدة لقضاة وزارة العدل تجاه كل ما هو نظامي، والنظرة التقليدية التي تسيطر على اجتهاد المحاكم حالياً أعتقد ُ أنه سيُفتح علينا بابٌ واسع عريض لمراجعة الإرث السابق لتلك اللجان وما قررته من اجتهادات وقواعد قضائية وفحصها ليس للتحقق من موافقتها أو مصادمتها للشريعة من عدمه ؛ بل لموافقتها أو مصادمتها ل ( الاجتهاد الفردي الشخصي بالقاضي ناظر الدعوى الذي يعتقد أنه مجتهد فقيه لا يجوز له القضاء بما يخالف اجتهاده ) في حين أن الحقيقة أن القضاة لدينا لا يمتلكون أوصافَ وشروط المجتهد المنصوص عليهما في الفقه حتى ولو مجتهد المذهب . وفي ظل النظرة التقليدية الضيقة للحلال والحرام أخشى أن يحصل في القضاء التجاري اضطرابٌ كبير سيؤثر سلباً في اقتصاد المملكة ونموها، وحركة التجارة والاستثمار فيها . لذا فإنه يجب التنبه لخطورة هذه المخاوف والسعي بجدية لتلافيها ولعل من أنجح الوسائل لذلك التأكيد على الإلزام بمبادئ القضاء التجاري التي قررتها دوائر ديوان المظالم وغيرها من اللجان واقتصار تشكيل محاكم الاستئناف التجاري على قضاة ديوان المظالم ذوي الخبرة الطويلة ومن ثم توسيع تلك الدائرة بإدخال غيرهم معهم بشكل متدرج يضمن عدم اضطراب هذا النوع من القضاء والانسجام في أحكامه . وما توفيقي إلا بالله هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل . *القاضي السابق بديوان المظالم والمحامي حالياً