يبدو أن أبرز الأعمال السينمائية لعام 2010 م تدور في ثنائيات التباين لخلق التوافق المحتمل أو الممكن، نجد ذلك في بعض الأفلام التي استعرضناها في الأسابيع الماضية، الواقع والحلم في "استهلال-Inception" لكريتسوفر نولان، الوحدة والخُلْطة في "الشبكة الاجتماعية-The Social Network" لديفيد فينشر، ثم الأبيض والأسود كنازع أخلاقي في "البجعة السوداء-Black Swan" لدارين أرونوفسكي. في "استهلال" و"البجعة السوداء" كانت الذاتية الحادة تتشظى بواقعية القصة المطلقة والمساحة النفسية المتاحة، بينما يتأطر فيلما "الشبكة الاجتماعية" و"خطاب الملك-The King's Speech" في حدود تاريخية لا يمكن اختراقها لخلق نموذج عام، على الرغم من كل الاتهامات التي نالت الفيلمين من ناحية الدقة التاريخية. في "خطاب الملك" الفيلم السينمائي الثالث للمخرج البريطاني توم هوبر، نتابع وقائع حياة الملك جورج السادس من زاوية محددة وثابتة، مشكلة التأتأة التي تعكر عليه صفو حياته منذ أن كان دوقاً ليورك، وحتى مراسم تتويجه كملك بعد تنحي أخيه الملك إدوارد الثامن عن العرش. يبتدئ الفيلم من حيث ينتهي، ليس كمفهوم زمني صارم أو مكاني محدد، ولكن من خلال مفهوم نوعي واحد، وهو الخطاب الإذاعي، حيث يتوسع مدى الجمهور إلى نطاق أكثر رهبة بالنسبة للملك المتوج على مستوى الكفاءة التامة سوى في قدرته على الحديث بدون أن يتلعثم، على الرغم من ثقافته الجيدة وتعليمه الذي يتناسب مع مكانته الاجتماعية والسياسية إن صح إضافة الأخيرة. وكما في فيلم البجعة السوداء من حيث أن التأثير يبرز جلياً من خلال التركيز على حركة الأطراف والجسد المهمة كعنصر بالنسبة لفيلم عن راقصة باليه، فإن خطاب الملك يتطور في حساسيته للصوت إلى حد مدهش، مما يتناسب مع فيلم يدور حول معضلة الصمت غير المرغوب فيه، وبالأخص عندما يكون الشخص الآخر بانتظار ما تريد قوله، هذا إن وضعنا في الحسبان جزئية مهمة، كونك ملكاً. قد يكون الشرط التاريخي المعتمد في صياغة جملة أحداث الفيلم، العنصر الأقوى في الفيلم أو على الأقل العنصر الأبرز في إدارته إذا غضضنا الطرف عن دقته، إلا أننا بأي حال لا نستطيع الاستغناء عن النص البارع الذي كتبته ديفيد سيدلر، والذي كان هو الآخر مصاباً بالتأتأة في فترة ليست بالقصيرة من عمره، ومع العثور على المذكرات الخاصة بمعالج إعاقات النطق "ليونيل لوغ" الذي عالج الملك من مشكلته، ومصادفة أن يكون أحد عمومته "ديفيد غريب الأطوار" قد قابل الرجل –لوغ – في جلسات خاصة لمشكلة تأتأة في صغره، كل ذلك قاد سيدلر، إلى تنقيح نصه ومنحه ألقاً يليق بفيلم يتناول جزءاً من سيرة الملك جورج السادس قبل وخلال الحرب العالمية الثانية. من المدهش أن كثيراً من بعض المقاطع التي يمكن استحضارها من الفيلم بسبب جودتها البلاغية، تأتي من المذكرات الخاصة بليونيل لوغ والتي اكتشفت قبل تصوير الفيلم بتسعة أسابيع فقط، مما يوضح مدى الأثر الذي يمكن للجزء الواقعي خلقه من خلال العمل المتخيل، السينمائي في هذه الحالة. توم هوبر يقف في مكان عال بكل معنى الكلمة مع نص متقن للغاية من الناحية الجمالية، طاقم تمثيلي مدهش يأتي على رأسه كولين فيرث في دور الملك جورج السادس، المرشح الأقوى والأبرز لأوسكار أفضل ممثل رئيسي، جيفري رش في دور المعالج الأسترالي ذي الأساليب العجيبة ليونيل لوغ، هيلينا بونهام كارتر عن دور الملكة إليزابيث، بالإضافة إلى مجموعة من المخضرمين مثل السير ديريك جاكوبي، مايكل غامبون، وتيموثي سبال. وفي التصوير حقق داني كوهين إنجازاً أهله لينافس على أوسكار لأفضل تصوير، امتدح فيه أحد النقاد "كهرباءه المنخفضة" قائلاً: لقد جعل كوهين الأشياء وكأن مزيجاً من الشاي القوي قد أغرقها، وهو ما يبدو جلياً من مشاهد الفيلم التي تم تصويرها من خلال الضباب والبرد الذي يصاحب الفيلم طوال أحداثه، حتى في التصوير المغلق لا يفارقنا الشعور بذلك المزيج الداكن، مما يجعله ينضم للأفلام التي ذكرناها آنفاً في بداية المقال، من الناحية الجمالية في التصوير العميق والثقيل شكلاً. توم هوبر يضيف هو الآخر لمسته الإبداعية في الكوادر المتسعة لشخوص العمل وبالذات مع ليونيل/رش، وبيرتي/فيرث، حيث يتتبع حركات الاثنين في الجلسات العلاجية، مع الاقتراب والتضييق في الحوارات التي تقترب من مشكلة الملك جورج السادس/فيرث، والذي يمكن اعتباره شخصية أخرى لبيرتي في حال وجود لوغ، ومن هذا الاتساع والانحسار يخلق هوبر تداخلاً في إشكالية الصمت والكلام، الحرية والقيود التي تفرضها الحياة الملكية، ما يمكن اكتسابه وخسارته في نمط تلك الحياة، وهو ما لا يدركه المواطن العادي كما صرح به الملك جورج السادس عندما كان دوقاً ليورك في إحدى جلسات العلاج الأولى مع لوغ. هوبر يضيف لمسته الإبداعية الأخرى في تمييعه للزمن أو عدم الاهتمام بحسابه مع أننا نراه هناك على الشاشة ماثلاً للتأكيد على تاريخ يصر هو على وضع الأحداث في إطاره، من أجل حسابات أخرى أصابه اللوم بسببها، ومع هذا الاضطراب التاريخي، تأتي نقطة قوته الأخرى، وهي الغرق بحميمية بالغة في حياة "مشكلة التأتأة" التي يعاني منها الملك، والضغط النفسي الشديد الذي تسببه له حتى بعد تأديته للخطاب الأقوى في تاريخ ملكه، عند إعلان الحرب على ألمانيا في عام 1939م. هوبر ينطلق متجاوزاً الدقة التاريخية من أجل الأثر الدرامي الذي ينوي تحقيقه، وهو ما نجح بشأنه على الرغم من الانتقادات التي نالت من سيدلر ومنه كونه المنفذ لتلك الوصايا الكتابية في السيناريو الذي قيل إنه نال موافقة الملكة إليزابيث الثانية، إلا أن الحساسية التاريخية بدت أقل ما يزعج هوبر الذي تحرك بحرية محسوبة الذكاء في معالجة السيناريو الذي دار حول ثيمتين رئيستين مشكلة التأتأة، وضرورة حلها لظروف المصاب وليس لمجرد حياته الشخصية، في ظل وجود متحدث بارع في المقابل –أدولف هتلر– والذي يرد في الفيلم في صورة حساسة المكان والزمان، ومن ثم ينطلق الفيلم في خطوط فرعية تخدم الأصل، مثل الملك إدوارد الثامن وتعلقه بأمريكية مطلقة مرتين، لوغ الممثل الفاشل والمعالج بدون أهلية تخصصية والممل كأب وزوج، الناجح كمعالج تجريبياً، الملك جورج الخامس الأب التقليدي الذي يظن أنه يحسن لابنه عبر تعنيفه وتدميره من الداخل بحسن نية للأسف، كل هذه الثيمات الجانبية جاءت في سلاسة واتساق، مدعومة بالموسيقى المدهشة للفرنسي ألكسندر ديبلا، جعلت الفيلم في مجمله عملاً فنياً خالصاً ونقياً شكلاً ومضموناً. لقد سبق لهوبر إنجاز فيلمين نالا تقديراً جيداً من النقاد والجماهير، "الغبار الأحمر-Red Dust" في عام 2004م، و"يونايتد الملعون-The Damned United" في عام 2009م، لكنه في "خطاب الملك" يتجاوز مجرد التقدير النقدي والجماهيري، إلى المنافسة والفوز بجوائز عديدة في العديد من المهرجانات والاحتفالات السينمائية حول العالم، وهو في طريقه إلى المزيد باثني عشر ترشيحاً للأوسكار الأمريكي، وأربعة عشر ترشيحاً للبافتا البريطاني متجاوزاً كل الأفلام الأخرى التي تتنافس معه في فئات مختلفة. توم هوبر كولين فيرث جيفري رش هوبر مع بطلي فيلمه: فيرث ورش كولين فيرث توم هوبر جيفري رش هوبر مع بطلي فيلمه: فيرث ورش