قلتُ، وما أزال أقول، وسوف أظل أردد ما حييت، أن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، طيَّب الله ثراه، مؤسس هذا الكيان الشامخ الراسخ الآمن المطمئن، وصانع وحدته، وباني عزّه، ومشيد مجده، كان حقاً بطلاً فذاً، وقائداً فريداً، وفارساً مغواراً، وسياسياً حكيماً بكل المقاييس، قلما جاد الزمان بمثله. ومع هذا كله، لوحظ أن معظم الكتب التي تناولت المملكة وسيرة مؤسسها (الملك عبدالعزيز) ركزت على الجانب التاريخي، مغفلة التحليل السياسي، والأهم من هذا كله، أنها أهملت دراسة شخصية صانع هذه التجربة الفريدة في تأسيس الدول، وما تمتع به من قدرة خارقة، وكاريزما لا نظير لها، جعلتا منه شخصية قيادية استثنائية وبطولية فذة. أجل.. لقد كان المؤسس، طيَّب الله ثراه، أمة كاملة تامة في رجل واحد، إذ اجتمعت فيه كل الخصال الحميدة والصفات الطيبة الكريمة، ولهذا سوف أظل أكرر باستمرار، أن التاريخ الكامل لحياة هذا البطل الفذ والرجل الصالح، لم يُكتب بعد. ولهذا أيضاً، لا يجد كل من يود الكتابة عنه أو تناول أي جانب من جوانب شخصيته القيادية الفريدة النادرة، أية صعوبة في مهمته، نظراً لثراء تلك الشخصية المتميزة التي ضرب صاحبها أروع مثل في التجرد ونكران الذات، والتضحية حتى بالروح من أجل سعادة الآخرين، والسهر على راحتهم، وتحقيق أمنهم واستقرارهم. وسوف تظل بصماته ومبادئه ونهجه، توجّه دفة الحياة في هذه البلاد الطيبة المباركة إلى الأبد إن شاء الله، يسير على هديه أبناؤه فارساً بعد آخر، يساندهم شعب مخلص، يدرك معنى المسؤولية الملقاة على عاتقه في المحافظة على سلامة هذا الكيان الذي بذل الآباء والأجداد كل غالٍ ونفيس من أجل تأسيسه. وأذكر أنني كتبتُ مقالين من قبل عن الجانبين: الإنساني والاجتماعي في شخصية المؤسس، طيّب الله ثراه، وقد حفزني على كتابة المقال الثاني (الجانب الاجتماعي) ذلك التلاحم الفريد، والحب الدفّاق، والولاء الخالص من كل شائبة وشائنة الذي أظهره الشعب السعودي النبيل في تعاطفه مع قيادته الوفية المخلصة، إثر تعرض مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، يحفظه الله، لعارض صحي، ومن ثم سفره للخارج وإجرائه عملية جراحية، وتماثله للشفاء بفضل الله، وعودة سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد الأمين ، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، من إجازة خاصة قضاها خارج المملكة، وعودة سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، أمير منطقة الرياض المحبوب، إثر إجرائه عملية جراحية، إلى أحضان الوطن. فيومئذٍ تدافع الشعب السعودي بكل فئاته، رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً، بل حتى الأطفال أدلوا بدلوهم، معبرين عن حبهم لقادتهم، ففاضت مشاعر الجميع حتى ضاقت بها صحفنا على اتساعها، فحرّكت فيّ تلك المشاعر الجياشة، حنيناً كامناً في أعماقي لذلك البطل الفذ والرجل الصالح الذي وضع القواعد، وأرسى الأسس، وحدّد المنهج، بل ضرب أروع مثل، فكان قدوة يسعى الجميع لتلمس خطاه والسير على هداه.. فكان ذلك المقال الذي أشرت إليه آنفاً، وهو يشكل حدثاً فريداً وعلامة فارقة في الأمن الاجتماعي الذي أسس له الملك عبدالعزيز كم هي عظيمة نعم الله علينا، إذ هيأ لنا، سبحانه وتعالى، من بين صفوفنا قائداً فذاً، وبطلاً نادراً، ورجلاً مصلحاً حقاً، صاحب همة عالية، ونفس طيبة كريمة، وقلب كبير، ورسالة سامية، فأسس لنا هذا الكيان الشامخ الراسخ الآمن المطمئن، وقضى حياته كلها في سبيل خدمته، وتثبيت دعائمه، ووضع أسسه، وتحديد منهجه لضمان استمرار المسيرة.. وهاهي قافلة الخير القاصدة تسير بخطى ثابتة على نهج المؤسس، فتحقق في كل يوم إنجازاً يزيد التلاحم بين أبناء هذه البلاد الطيبة المباركة، قيادة وشعباً، ويقوي شوكتهم للتصدي لكل تيارات الخراب والدمار والفوضى والاضطراب. ولا غرو في ذلك، فهي أول دولة إسلامية في العالم تطبق شريعة الله في كل أمورها، وتتخذ منها منهج حياة في جميع شؤونها، صغيرها وكبيرها، حتى عُرفت في كل بلاد الدنيا أنها دولة الأمن والأمان اللذين صارا رديف اسمها، مثلما صار لقبا الإنسانية والخير رديفا أسماء قادتها الكرام، فمليكها هو ملك الإنسانية، وأمراؤها هم أمراء الخير، ينثرونه في كل مكان، دون منَّة أو انتظار لمكافأة، لأنهم يرون أن رسالتهم هي إسعاد الإنسانية حيثما كانت، بعد توفير أمنها واطمئنانها. واليوم، أجدني معنياً في مقالي هذا بتلمس الحس الأمني في شخصية الملك عبدالعزيز، ومفهوم الأمن لديه، أكثر من عنايتي بالإجراءات التي اتخذها جلالته لبسط الأمن وتحقيق الطمأنينة، لأن ذلك مجال بحثٍ عميق، أتركه للباحثين والمؤرخين والمعنيين بالدراسات الأمنية. أما أنا، فحسبي أن أشير هنا إلى الجانب الأمني في شخصية المؤسس، اعترافاً بحسن صنيعه، وتحريضاً للباحثين على مزيد من الدراسة والبحث والتحليل، لكن قبل هذا وذاك، شكراً لله العلي القدير على نعمة الأمن والاطمئنان الذي نعيشه بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بجهد الملك عبدالعزيز، ونيته الطيبة الخالصة النقية، وبُعد نظره، وعبقريته، وبصيرته النافذة التي استطاعت اختراق التاريخ لتأسيس هذا الواقع الذي نتفيأ اليوم جميعاً ظلاله الوارفة. فأبدأ وأقول: إثر انهيار الدولة السعودية الثانية، وجلاء عائلة آل سعود عن الرياض، عاش عبدالعزيز متنقلاً مع أسرته بين القفار ثم البحرين والكويت. وقد قضى كل تلك المدة يتأمل الحياة ويراجع سيرة أسلافه وتاريخهم في محاولة لإيجاد تفسير لما يحدث، إذ كان يتابع بشغف واهتمام شديدين أخبار ما كانت عليه بادية العرب في عهد تفككها واضطرابها، وماكانت تسبح فيه من فوضى عارمة، وتخبطها على غير هدى، وتجاهل التاريخ لها أو قل، إن شئت، جهل التاريخ بها، حتى صار من أعرف الناس بها وبشؤونها.. يعرفها شبراً بعد شبر، ويعرف دروبها ومسالكها ووديانها وسهولها، وحتى ذرات رمالها، ويحفظ أنسابها، لدرجة أنه يستطيع تحديد القبيلة التي ينتمي إليها محدثه من أول جملة ينطق بها، إذ كان يصفها قائلاً: (مثل هذه البادية في حياتها كمثل أرضها، تظل قاحلة جرداء ماحلة إلى أن يسقيها الغيث، فإذا سقيت اخضرت وأزهرت. كذلك هي في رجالها، تستمر عصوراً وهي مستغرقة في جهالاتها وعداواتها، ويبرز فيها رجل يحسن تنظيمها وتوجيهها، فتنقلب، والحياة ملء كل ناحية من نواحيها). أجل.. لم يكن عبدالعزيز في الصحراء أو حتى في ملجئه في البحرين ثم الكويت، يندب حظه، بل كان يدرس ويتأمل ليستفيد من التجربة، فوعى حالة الخضوع للقوة القاهرة التي لجأ إليها بعض شيوخ القبائل حفاظاً على الكيان، واعترافاً وتسليماً بالعجز المطلق عن المقاومة، ولهذا اتسم خضوعهم بالذل والمرارة والانكسار، وتعدد حوادث تدخل الإنجليز لخلع هذا الشيخ، وتنصيب ذاك، الأضعف شخصية، وأكثر استعداداً لقبول الذل. وقد وقَّع معظم أولئك المشايخ معاهدات حماية دون إدراك كامل بتبعاتها، وسرعان ماندموا واعترضوا وخُلعوا عن عروشهم. كما أدرك عبدالعزيز بحسه الأمني أن قيام وطن واحد موحد قوي، يعد أحد أهم شروط تحقيق الأمن، لأن الدويلات الصغيرة المتجاورة، والكيانات المبعثرة هنا وهناك، لن تعيش في سلام أبداً، إذ لابد أن يحارب هذا ذاك، ويعتدي أحدها على الآخر. كما أدرك جيداً أن الوحدة الوطنية تتطلب طي صفحة الروح الإقليمية والقبلية، لأن انقسام الناس بين ولاءات متعددة يغذي الرغبة في الاعتداء والعداوة والبغضاء. وكان يرى دائماً في الوحدة الوطنية صمام أمان ضد كل التدخلات الخارجية والمطامع الأجنبية، ويتضح لنا هذا جلياً في رده على الملك فاروق عندما طلب إليه التوسط في الأزمة مع بريطانيا (51-1952م) فكان رد عبدالعزيز لرسول فاروق: (لا فائدة مالم يتفاهم فاروق مع الوفد لتحقيق الوحدة الوطنية المصرية) مؤكداً هنا أن الوحدة الوطنية هي فعلاً صمام أمان حقيقي ضد أي تهديد خارجي. ولهذا عمل عبدالعزيز بجد، بل قل إن موضوع الوحدة الوطنية كان يمثل أهم ملامح الدولة التي سعى لتأسيسها، حتى قبل استعادة الرياض في تلك الملحمة الفريدة الرائعة. ولأن الملك عبدالعزيز كان قائداً صاحب رسالة يريد لها أن تستمر وتبقى جذوتها مشتعلة، كان يرى أن تأسيس الدولة الآمنة المطمئنة، يعد أهم غاية لتحقيق رسالته وضمان ديمومتها، ولهذا حدد من البداية ثلاثة أهداف أساسية في إنشاء دولته: الأول: أن يؤسسها معتمداً بعد الله تعالى على سواعد أبناء بلده، بعيداً عن الخضوع لأي أجندات خارجية، ليضمن لها استقلالاً تاماً في قرارها، وليكون تحديد سياستها ومصيرها بأيدي أبنائها المخلصين، لا بيد الأجنبي الذي يسعى حتماً لتوجيهها بما يتفق مع مصالحه، ويخدم رغباته دون أدنى مراعاة لمصلحة أهل البلاد وحقهم في الاستمتاع بخيرات بلادهم. الثاني: أن يوحدها، مهما كلفته مسيرة التوحيد، لكي يقضي على بواعث الخلافات الإقليمية والقبلية والجهوية، ويبقى الولاء لله وحده ثم لوطن واحد موحد. الثالث: أن ينأى بها عن التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، سداً لباب النفوذ الأجنبي الذي يمكن أن يأتي بحجة طلب السلطة الانقلابية غير المدعومة بالأغلبية الشعبية، أو القوة القبلية القادرة على فرض النظام. أجل.. فتش عبدالعزيز في ترسانته، بل لعله تأمل كل الترسانة العربية والإسلامية، فلم يجد إلا الإسلام، رسالة البيت السعودي وسبب مجده ومبرر حكمه وصانع أمنه واطمئنانه، فعضّ عليه بالنواجذ. وهكذا أسس عبدالعزيز دولته، بسواعد أبنائها المخلصين، بعيداً عن هيمنة تركيا أو منَّة بريطانيا، مؤكداً بذلك خطأ الأسطورة البريطانية التي كانت تزعم أنه ما من حدث يحدث في العالم، إلا وفقاً لمخطط بريطاني ، تلك الأسطورة الخاوية التي أشاعتها بريطانيا لكي تعطي نفسها حق التدخل في كل الكيانات التي تنشأ في العالم يومئذٍ ، وقد سبق عبدالعزيز الجميع في عشرينيات القرن الماضي في اكتشاف هذا الخواء الحضاري الأوروبي المزعوم، عندما قال مؤكداً: (أوروبا باب كبير من حديد.. لا شيء بداخله). ليس هذا فحسب، بل هاهم ممثلو الإمبراطورية البريطانية، تجذبهم طاقة عبدالعزيز الهائلة وشخصيته الآسرة، فيدورون في فلكه، ويُقْتَل أحدهم تحت رايته، ويستقيل آخر من خدمة حكومة صاحب الجلالة بسبب ما اتهم به من تحيز لدرجة العمالة لابن سعود، فينتهي به المطاف موظفاً عنده، يجلس بين حاشية الملك وسماره. وها هو الشيخ عيسى ابن الشيخ علي آل خليفة يشهد باستقلال عبدالعزيز عن القوى الخارجية ويشيد بصدق انتمائه لدينه ووطنه وأمته، إذ كان يرى فيه (المنتقم العربي) والفارس الذي نجا وحده عن (مرض الإفرنجي). ولهذا بكى عندما مر ابن سعود بالبحرين منتصراً عام 1930م، ونزل بها بإرادة شعبها وشيخها هذا، رغم أنف الحماية البريطانية وما دبرته. وقال الشيخ عيسى آل خليفة يومئذٍ قولته المشهورة: (أموت الآن مطمئناً بعدما رأيت عبدالعزيز في هذه الحال). ولأن عبدالعزيز أدرك جيداً الأسباب التي عجلت بانهيار الدولة السعودية، وأهمها انشقاق البيت السعودي الذي بدأ في عصر عبدالله بن سعود، ثم تأكد بصراع الإخوة والأعمام وأبنائهم، حتى وصل ذروة المأساة بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي، كان أول ما فعله عبدالعزيز عند استعادة الرياض هو سد الطريق أمام أي احتمال لأي خلاف داخل بيته، مستخدماً في ذلك عبقريته السياسية التي وهبه إياها الخالق عزّ وجل. ومازال الدور الذي اضطلع به الإمام عبدالرحمن هنا يذكر فيشكر دائماً. إذ لم يتردد أبداً في الاعتراف بالإمامة والقيادة والإمارة لابنه عبدالعزيز وحده، دون سواه، وهكذا ضمن عبدالعزيز شرطاً آخر يضاف إلى الشروط السابقة في تحقيق الدولة الآمنة المطمئنة، لأنه وأد أية نية يمكن أن تطفو على السطح للتنازع على الحكم. وهكذا انطلق البطل الفذ، والفارس المغوار، يصول ويجول بسيفه، فأسس أول وحدة عربية، وأبقاها بالإرادة العربية المنفردة، تتويجاً لحقيقة عربية أنجزتها سيوف العرب، لا بقرار مؤتمر أوروبي أو اتفاقية سايكس – بيكو أو بموجب خارطة حدّد معالمها قناصل الغرب هنا أو هناك. أجل.. كان عبدالعزيز مع التاريخ.. مع الجماهير، ولم يكن بيدقاً في لعبة الكبار، فلم يفرط في سيادته، ولا احتاج يوماً لحمايته ضد العرب أو ضد شعبه، في وقت كان كل زعماء المنطقة يلعبون على أكثر من حبل، ويرفعون راية هذا المستعمر أو ذاك طلباً للحماية، لكن عبدالعزيز لم يرفع غير راية آل سعود.. راية التوحيد والوحدة.. راية الإسلام الخالدة أبداً (لا إله إلا الله محمد رسول الله). الآن، وقد تأسست الدولة، وتحققت وحدتها الوطنية، ووئِد كل احتمال للتنازع على السلطة، عكف عبدالعزيز على ترسيخ أمنها واستقرارها، ليضمن ديمومتها واستمرارها، وبالتالي تفرغها للاضطلاع برسالتها الإسلامية السامية، وكان يدرك في قرارة نفسه أن الأمن يبدأ منه هو، إذ يقول: (إن التقشف مطلب أساسي للقائد في كل حركات التحرر الناجحة، لأن الثورة على القهر والتمزق والتخلف، ودعوة الناس للتضحية والفداء، لا تتفق والاستمتاع، فلابد إذن من التطهر والتقشف في القيادة حتى يكون من حقها مطالبة الجماهير بالتضحية) ولهذا لا نستغرب أبداً إذا ماعلمنا أنه كان يقول عن نفسه: (لقد بلغ بي الفقر حداً جعلني أرهن سيفي المرصع بالجواهر الذي أعطاه لي الشيخ مبارك. ولم أكن أستطيع أن أشتري حتى سجادة لشدادي، فكنت أستعيض عنها بأكياس فارغة). وظل عبدالعزيز محتفظاً ببساطة معيشته كأي فرد عادي من أبناء شعبه، ومن أراد أن يتأكد فليقم بجولة خاطفة في متحفنا الوطني بقصر المربع ليرى عصاة عبدالعزيز ومشلحه وعباءته ونظاراته وساعته وبندقيته وحتى حذاءه، ليدرك كم كانت كلها عادية، حتى مع فارق الزمن طبعاً. ومن جهة أخرى، كان يحرص على اختيار الرجال المخلصين الأوفياء، الذين يتميزون باستقلالية الرأي والقدرة على المشورة الحقيقية، والاستعداد للتضحية من أجل بلادهم، فالعمل عنده تكليف لا تشريف، كما كان دائم الحث لأولاده ومعاونيه على ضرورة الاهتمام بمشاكل الناس، والعمل ليل نهار على تفقد شؤونهم، والاستجابة لمطالبهم، وكان كثير الحب لشعبه، وشديد الحرص على الاتصال به، ولهذا كان دائم الحث على ضرورة اتصال الراعي بالرعية. ولم يكن ينام إلا بعد أن يطمئن على جميع أحوال الدولة من خلال البرقيات التي كانت ترد إليه تباعاً، ومتابعة أمور الدولة المهمة على الصعيدين الداخلي والخارجي، كما كان يدرك جيداً أن المثل والسلوك المسؤول والاقناع هي الطريقة المثلى لكسب المعارضين، لا الترويع أو القتل أو الخطف. أجل.. كان الملك عبدالعزيز يدرك جيداً حقيقة القانون الحضاري الذي يبدأ بتوفير الأمن، إذ كان يرى دائماً أن تحقيق الأمن يدفع الناس للاشتغال بالكسب الحلال من زراعة وتجارة ورعي، فلا يعتدي بعضهم على بعض، ولا ينهبون ولا يسرقون ولا يقتلون أو يقطعون الطرقات. ولهذا تعد مسارعته لإنشاء الهجر لتوطين البادية أحد أهم إنجازاته وأعظمها، وهي أكبر ظاهرة تستحق، بحق، اهتمام الدارسين والباحثين والمهتمين بمستقبل العرب وبسط سلطان الشريعة الإسلامية وترسيخ الأمن. إذ استطاع عبدالعزيز عن طريق إنشاء تلك الهجر، وضع حد لحياة أهل البادية التي لم تكن تعرف استقراراً طوال حياتها، فما تكاد تنصب خيامها هنا، حتى تطويها لترحل بعيداً، فتنصبها هناك بحثاً عن الكلأ والماء. لكن عبقرية عبدالعزيز ربطتهم بالأرض، فشيّد البدوي منزله، وفلح أرضه ليكسب معاشه بعمل يده وعرق جبينه، فلم يعد بالتالي في حاجة لقطع الطريق والاعتداء على الآخرين لسلبهم وتهديد حياتهم، وهكذا أيضاً استطاع عبدالعزيز بحسه الأمني وغريزته الفطرية وضع حد لأحد أهم أسباب اضطراب الأمن في بلاده. ويبرز هنا الجانب الأمني في شخصية الملك عبدالعزيز بقوة شديدة ، وتظهر موهبته كرجل دولة من طراز فريد، يعرف كيف يحقق أهدافه بالقدوة والعلم والعمل والمنطق، وليس بالقوة والتسلط على الناس، فطرح البديل المناسب للبدوي، بإنشائه لتلك الهجر، فلم تعد ثمة حاجة تستوجب إثارة القتال بين القبائل وما يترتب عليها من غارات ثأرية وسلب ونهب وفوضى؛ لأن الإنسان بطبعه ميال إلى السلم والخير، فإذا حصل على حاجاته الضرورية من مأكل وملبس ومأوى، فلم يعد ثمة ما يدفعه للشر والاعتداء على الآخرين. ولأن عبدالعزيز كان أعرف الناس بالبدو، فقد أدرك جيداً أن البدوي لم يكن يغير طبيعته بين عشية وضحاها، ولهذا حاول، ما وسعه الجهد، التسامح في حالات الانفلات التي كانت تتم بدافع الطبع ونوازع العادة، وظل يعالجها بتأن ليل نهار، حتى غيّر أولئك طبعهم وعرفوا معنى الأمن والانصياع لحكم القانون والامتثال للنظام العام. أما حالات الانفلات الأمني التي كانت تحدث عن قصد وسبق إصرار، لأن مرتكبيها استمرأوا الغزو والسلب والنهب، وآثروه على العمل والكسب الحلال، فما كان لرجل مثل عبدالعزيز يضطلع بما اضطلع به من مسؤولية عظيمة ورسالة سامية، إلا أن يحكِّم شريعة الله في مرتكبيها، فيجعل منهم مثالاً وعظة للمعتبرين. ولأن بسط الأمن كان غاية أساسية من أهداف الملك عبدالعزيز، فقد ساس الناس بالرفق واللين والعدل حتى تمكن من بسط الأمن في سائر أرجاء بلاده، وتفرغ الناس للعمل والبناء، كما كان مدركاً لأمر الشورى، حريصاً عليها، وكان يرى أن الإخلاص والنصح هما أساس كل شيء. ولهذا كان يؤكد دائماً أن إغفال الشورى مجلبة لهوى النفس. ولهذا أيضاً يعد عبدالعزيز أول حاكم عربي لجأ لأسلوب المؤتمرات العامة لمناقشة القضايا العامة للدولة والخلافات الداخلية، ويطلب إلى المؤتمرين أن يواجهوه باعتراضاتهم فيها، كما كانت له جمعية عمومية تضم كافة القيادات، يعقدها كلما واجهت البلاد موقفاً خطيراً أو أراد اتخاذ قرار مصيري، ويخاطب المؤتمرين: (... أمامكم اليوم أعمال كثيرة من موازنة لدوائر الحكومة، ونظم من أجل مشاريع عامة، والأمة تنتظر منكم ماهو المأمول في هممكم، لقد أمرتُ ألا يسن نظام في البلاد ويجري العمل به قبل أن يعرض على مجلسكم من قبل النيابة العامة، وتنقحونه بمنتهى حرية الرأي. إنكم تعلمون أن أساس نظامنا وأحكامنا هو الشرع الإسلامي، وأنتم في تلك الدائرة أحرار في سن كل نظام وإقرار العمل الذي ترونه موافقاً لصالح البلاد، على شرط ألا يكون ذلك مخالفاً للشريعة الإسلامية). هكذا كان مفهوم الأمن بمعناه الشامل الواسع عند الملك عبدالعزيز، فاحتل أولوية قصوى في أجندته في كل منطقة بايعته على الولاء والسمع والطاعة، فأمن الناس على أرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم، ودمائهم، وكل شؤون حياتهم، بما اتخذه من إجراءات لقطع دابر الفوضى والاضطراب، وتوفير العيش الكريم للجميع، وغرس معاني الإسلام السامية الخالدة، من تآزر ومحبة وتآلف وتعاون في نفوسهم، وهكذا استطاعت الشريعة الإسلامية التي اتخذها عبدالعزيز منهجاً أصيلاً يحكم حركة الحياة في مملكته، تحقيق أمن فاق قدرة أي مجتمع وأية حضارة عرفهما التاريخ، بما وطدته من حس بالعدل في نفوس المؤمنين بها، وما فرضته من سيادة للقانون بدعم السلطة. وبجانب هذا كله، كان عبدالعزيز يرى أن كل مواطن معنيّ بحفظ الأمن بالدرجة ذاتها التي تترتب على الجهات النظامية، وقد عبَّر عن ذلك كثيراً، غير أنني أكتفي هنا بجزء مما جاء في منشور له في جريدة أم القرى، العدد الصادر في الثامن من ذي الحجة عام 1352ه، إذ يقول، طيب الله ثراه: (... كل فرد من شعبي هو جندي وشرطي، وأنا أسير وإياهم كفرد واحد، لا أفضل نفسي عليهم، ولا أتبع في حكمهم غير ما هو صالح لهم حسبما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد منَّ الله علينا بهذا الُملك، ثم بإيماننا الذي في صدورنا. لقد حكمت هذه البلاد حكومات قوية ذات حول وطول قبلنا، ولكنها لم تقدر على تأمين الطرق بين مكةوجدة، فضلاً عن بقية الأماكن والطرقات. أما اليوم، فإن الأمن سائد في طول البلاد وعرضها، وقد لمستموه بأيديكم وشاهدتموه بأعينكم، وهذا من فضل ربي علينا، وأسرتي وشعبي، جنود من جنود الله، نسعى لخير المسلمين، ولتأمين راحة الوافدين إلى بيت الله الحرام وأداء مناسكهم). والحقيقة الشواهد على هذا كثيرة ، غير أنني أذكر قصة بسيطة، أجدها حقاً مؤثرة، تلك هي قصة المرأة التي التقى بها جلالته في إحدى رحلاته الصحراوية، تجوب الصحراء بمفردها، فسألها عبدالعزيز عن رفيقها في تلك الرحلة، فأجابته دون تردد: بلى.. معي رفيق. فقال الملك: أين هو، لا أراه؟ فردت المرأة، وهي تجهل هوية محدثها: إنه عبدالعزيز. فكان لرد تلك المرأة الآمنة المطمئنة، أثر عظيم في نفس الملك عبدالعزيز ومرافقيه، فلهج لسانه بالحمد والشكر والثناء لخالقه الذي وفقه لتأمين البلاد والعباد، واطمأنت نفسه الكريمة أيما اطمئنان لذلك الرد الحازم الحاسم الواثق الآمن المطمئن. وبعد : لا أجد حقاً أفضل مما قاله سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد الأمين، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، لأختم به مقالي هذا، إذ يقول سموه الكريم: (لا شك أن كل ما ننعم به اليوم هو بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل الملك عبدالعزيز ومعه أولئك الرجال الذين حملوا أرواحهم على أكفهم مهما كانت التضحيات، حتى أصبحت بلادنا، ولله الحمد، واحة أمن بعد أن كانت مسرحاً للصراعات والفتن والحروب الأهلية المريرة.. وصارت بلادنا اليوم قوة سياسية ترمز إلى الاعتدال والحكمة وسلامة المنهج واستمراريته على نحو يثير الإعجاب في عالم يتسم بالاضطراب الشديد). قال صلى الله عليه وسلم : (إن الأمن في الأوطان إحدى نعمتين، ثانيتهما الصحة في الأبدان). فالحمد لله الذي جمع لنا النعمتين، بل تفضل علينا بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى. وجعل لنا ولاة أمر همهم الوحيد هو راحتنا وسعادتنا، وتحقيق أمننا، وعزة بلادنا، فجندوا كل طاقاتهم لخدمتنا ورفعة وطننا، حتى صرنا كلنا أسرة واحدة متحابة، متآزرة، متعاونة، آمنة مطمئنة.. ينتشر أفرادها في وطن واسع ، سعة صدر قادتنا الكرام، وعطفهم وحبهم لأفراد هذه الأسرة السعودية الكريمة. وبالطبع، لابد لكل من يتحدث عن الأمن في بلادي اليوم أن يشيد بدور سيدي صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية رجل الأمن الأول وعين الوطن الساهرة دوماً لكي ننام نحن ملء جفوننا، تحرسنا رعاية الله ويقظة نايف ورجاله المخلصين. وكلنا يدرك كم هي عظيمة جهود سموه الكريم في استئصال الجريمة وحماية المجتمع من كل ما يهدد أمنه وسلامته. فكانت بلادنا منذ عهد المؤسس، وماتزال اليوم، وستبقى أبداً إن شاء الله نموذجاً يحتذى على مستوى العالم في توفير الأمن والأمان والطمأنينة والسكينة، بفضل جهود ولاة أمرها الذين يحرصون على تطبيق الشريعة الإسلامية السمحة.. ولا يفوتني في ختام مقالي هذا أن أزجي أصدق آيات الشكر والتقدير لسيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، أمير الرياض المحبوب، الأديب ، الأريب، المثقف، صديق الصحفيين والمؤرخ البارع، بل شيخ المؤرخين، الذي حرّضني على الكتابة في هذا الجانب من خلال كتابه (ملامح إنسانية من سيرة الملك عبدالعزيز).. وفاءً للمؤسس، وشكراً لله العلي القدير الذي أنعم علينا برجل كبير.. كبير.. مثل الملك عبدالعزيز.. فبالشكر تدوم النعم. * مدير إدارة الثقافة والتعليم للقوات المسلحة