لعلها كانت أقرب إلى مصادفة أو مفارقة او تحصيل حاصل، بيد أن الرواية الشبابية المصرية، بزخمها، وعدد المشاركين فيها، ومواضيعها، ومضامينها وأشكالها، على تشابه مع الذي شاهدناه في ميدان التحرير منذ الأيام الأولى للثورة. ثورة الشباب في مصر لم تكن على السلطة فقط، بل هي، إن شئنا إنصافها، على كل ما هو عتيق ومهترئ ومستهلك في المجتمع المصري. انها ضد الرثاثة والتخلف التي أسهمت فيها ثقافة استوطنت البلدان العربية، حتى بتنا لا نعرف من الأكثر عنفاً وتخلفاً السلطة أم المعارضة، وما هو الفرق بين مطالب المعارضة والحكومة، بين المثقف المعارض والموالي، فكلهم يحملون الشعارات نفسها ويزايدون على بعضهم. الرواية عموما في مصر، وثيقة من بين وثائق رصد المتغيرات المجتمعية، لا فقط بسبب سعة النتاج الروائي الذي لا يوازية نتاج عربي آخر، بل لأنها بقيت قريبة من الواقع حتى في موجاتها الشكلانية. وعندما قدم الروائيون الشباب أنفسهم، لم يكن لهم سوى هدف برهن عليه نتاجهم، وهو الثورة على فكرة توارث الأساليب والأفكار. تبدو هذه الكلمات أقرب إلى المعجم السياسي، ولكن ما أشاعته روايات مصر الشبابية هي فكرة الثورة نفسها، وعلى النفاق المجتمعي الذي يتمسك به الروائيون من جيل الستينيات ومن أعقبهم. في وقت انتشرت فيها روايات علاء الأسواني التي تدين السلطة وممثليها، وتصور المثلية الجنسية على انها وصمة عار للبطل السلبي، كان الروائيون الشباب قد حولوا الأبطال السلبيين والهامشيين وبنات الشارع أبطالا. وبدا الأمر وكانه دعوة إلى تغييب الأخلاق العامة والقيم، ولكن السخرية والتهكم التي طبعت أعمالهم ولغتهم، جعلت من خطابهم أقرب الى المحاكاة الفكاهية لكل أشكال البلاغة الروائية القديمة ومواعظها. وفي الظن ان الوعظ الاخلاقي كان يكمن في طيات الخطاب المصري الروائي الذي مثلته الروايات المعترضة على السلطة والقهر والطبقات المهيمنة، منذ نجيب محفوظ، حتى آخر ورثته. ندرة من الروائيين الذين مثلوا الرواية المصرية وبقوا ملوكها المتوجين، استطاعوا الإفلات من الشعارات، الظاهرة منها والخفية، ولعل مشكلة هؤلاء تكمن في مكوثهم في زمن المثقف الذي يظن بنفسه الكثير، ذاك الذي يرى في الأدب سلطة تشبه سلطة الزعيم. وسنجد في روايات مثل "ذات" و"شيكاغو"، و"اميركانلي" و"نقطة نور" وسواها من الروايات، وهي أبرز ما أشادت به أقلام النقاد، تلك العقبة الماثلة أمامنا وهي كيف نتجاهل شحنة الخطاب الأيديولوجي الثابت في مكانه منذ الستينيات. الروائيون في كل هذا، على حق في الربط بين السلطة العاتية والامبريالية واسرائيل، ولكن الخيال وهو صانع الثورات والروايات معا، لابد أن يسأم من مكوثه في دائرة يلف ويدور حولها. وهكذا سنجد في الرواية التي تمردت على هذا الإرث، شبهاً مع انتفاضة الشباب التي نبذت شعارات الحقبة الناصرية، بل سخرت تلك الرواية من كل ما يسمى السرديات القديمة. محاولة الروائيين الجدد قلب تلك الخطابات واستبدالها بخطابات مضادة، هو أشبه بما استخدمه الثوار في ساحة التحرير، تلك الأصوات التي جعلت أصحاب الشعارات القديمة يصمتون عن شعاراتهم، وفي ضرب من التسليم بانتهاء صلاحياتها. إنتفت عن الرواية الشبابية المصرية على الأغلب، صفة المؤلف المباشر، مع ان الكثير منها كان أقرب إلى السيرة الذاتية، ولكن منجزها الأهم يظهر في كمون الذات والعالم في قلب الشكل السردي. معظم تلك الروايات تستعير من العوالم الجديدة سبل سردها،وسائل اتصالها،وزمنها المتسارع الذي يربط قارات الأرض في لحظات معدودة. الأهم من كل هذا، مواضيعها التي تتداخل مع طرق إبلاغها، فهي تبدو وكأنها تعبر بين اللغات وتراوغ اللغة القديمة وتحاول تدميرها بالسخرية اللماحة والضحك الأسود. فعندما تتفكك الذات ويتشظى العالم، يغدو المؤلف قادراً على النفاذ إلى صيغ غير ثابتة وخارج توقعات الخطاب المنجز. أكثر الروائيين المصرين الشباب من مستخدمي الانترنيت، أي إنهم دخلوا في العصر الرقمي، وهو عصر باتر ومنقطع من الذي يسبقه،على نحو لا يقبل وراثة أو مكوثا لنمط الأفكار والأساليب الأدبية القديمة.فعالم الانترنيت يفرض قدراً من السرعة التي تختصر الأزمنة، اضافة إلى نوع من التقنية التي تقوم على الحركة والإبدال والإحلال. قصص الشباب المصري وروايتهم بدأت في وقت مبكر، في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، ومثّل هذا الاتجاه مجموعة من الكتاب كان أغلبهم في عمر طلبة الجامعة. زادت أعدادهم بمرور الوقت،وعلى وجه التحديد في السنوات القليلة المنصرمة، وشجعتهم دار ميريت في القاهرة التي تولت طبع نتاجهم، ولكن أعمالهم وحكاياتهم تناسلت على المواقع الإلكترونية. ما الذي أضافه هؤلاء وما هي طبيعة مواضيعهم؟ أولاً هم كتبوا النوفيلا، بعض هذه الروايات لا يتجاوز المئة صفحة من القطع الصغير. هي تبدو بمعنى ما، ضد مفهوم الرواية التي تحتاج نوعاً من الإشباع على كل المستويات: الأفكار، الشخصيات،الحبكة، البناء. كما ان تلك الروايات تتراوح بين الجرأة في طرح مواضيعها، وبين اللامبالاة والسخرية، وسخريتها لم تشمل الأفكار فقط، بل أساليب الحياة والأخلاق والقيم، بما فيها الحب الرومانسي الذي كان موضع تندر الكثير منها. كما انطوت على رغبة في احداث صدمة أو دهشة، وتجلت على هيئة عدوانية الأفعال واللغة، وهي تذكرنا بأفلام الشباب، ولعل نمط الشخصيات المنتقاة تعاني من اغتراب في بيئتها، وهذا الاغتراب يستبطن نفورا منها. حفلت تلك الروايات بمفردات الحياة الجديدة، بما فيها استخدام اللغة الهجينة، مزيج من العامية والاستعمالات الغربية ولغة التحادث على المواقع والمسجات على المحمول. لعل أبرز رواية اشتهرت وعدت بداية هذه الموجة هي لأحمد العايدي " أن تكون عباس العبد" 2003 دار ميريت. وهي تبدو وكأنها منقولة عن موقع إلكتروني، وصاحبها أرادها كما يقول أقرب إلى الرواية التفاعلية. رواية متشظية، فيها من المسجات والرسائل المشفرة أكثر من سردها المتقطع. بطلها الفتى لديه ظله عباس العبد وبطلتها هند لديها شبيهتها او نسختها الالكترونية التي تحمل الاسم ذاته. الشخصيات تتحرك بين الشقق والشارع والمول، السوق الكبير، ولأن بطلها مروج منتجات تجميل النساء، فهو يحتال كي يكون كما يريد هو لا بضاعته، ولعل تلك المهنة المفترضة، مجرد تورية للبطالة التي يعانيها. فتاة الرواية تساوم على جسدها، ولكنها تملك براءة طفلة ولغة محتالة مراوغة. لماذا اختار هذه النماذج دون سواها، ولماذ انتقى هذا الأسلوب؟ يرى أحمد العايدي في مقابلة له، ان الناس لفرط رؤيتها للقباحات في الشارع فقدت حس الدهشة، على هذا يرى في كتاباته فعل مقاومة. يقول بالحرف : " انا لا أعرف كيف أذهب لأقاتل في فلسطين والعراق، ولا أعرف إن كان مفيداً أم لا. فقد مللت مشاهدة الدم في التلفزيون، وأردت ان أفعل شيئاً قبل أن يأتي الدور علي وأتحول إلى رقم في قوائم الشهداء" . جرى ذلك الحديث في وقت مبكر،بعد سنوات من نشر روايته التي يعلن فيها ملله دفعة واحدة : " يقول عباس بأن البناء يأتي بعد التحطيم . لتتحطم الوظائف التي لم تقبلني. لتتحطم المحطات التي لم تنتظرني. لتتحطم الخطابات الطويلة التي لم يرسلها أقربائي الموتى. ولتتحطم سفن انتشال غرقى (التايتانيك). أنت مهندس الكومبيوتر مفكوك ربطة العنق، وعلبة (سي ديهات) في يدك. (فواعلي) في مناجم (الديجيتال). عبد إلكتروني في مستعمرة (بيل جيتس) شاهد (ساندرا بولاك) في (الشبكة) .. ثم أنقر التالي. لعل الحكاية ابتدأت من هنا، ولم تنته حتى اليوم.