تشتعل القاهرة بالمظاهرات الصاخبة مع هدير الدبابات في الشوارع عبر المباني. ومع هذا فإنه في مدينة الأموات حيث يعيش الفقراء متناثرين مبعثرين وسط المقابر المنسية، يقوم زاري بخبز الرغيف مثابراً في عمله من الساعة السادسة صباحاً حتى الثامن مساءً مقابل أجر يقل عن (90) دولار في الشهر يسدد منه قيمة الإيجار ويقيم به أود أطفاله الستة الذين يتولى تنشئتهم. لقد ظل زاري على هذا الدأب منذ عشرين عاماً أمضاها يمارس عمله بخفة ورشاقة وبراعة. تحدث زاري معلقاً على المظاهرات بقوله: «كيف يمكنني الخروج إلى الشارع للمشاركة في المظاهرات؟ إنني بالكاد باقٍ على قيد الحياة». يشار إلى أن المظاهرات الهادرة التي ظلت تجتاح هذه البلاد تأتي تجسيداً للاحتجاج على سنوات يراها الكثير من المصريين سنوات من القهر والفقر والبطالة. ومع هذا فإن العديد ممن يعيشون فقراً مدقعاً لم يرفعوا اصواتهم وإنما اكتفوا بالاستماع لدوي الأعيرة النارية ماكثين بالقرب من محلاتهم وأعمالهم الهامشية. إنهم يقولون إن الأثرياء فقط هم الذين يمكنهم اقتطاع يوم من أعمارهم للأحلام الوردية بإسقاط الحكومة. تظهر صبية تحمل طبقاً فضياً وهي تمشي ولا تلوي على شيء عبر الأزقة في المنطقة المجاورة للفرن الذي يعمل فيه زاري حيث تتلوى الممرات وتتعرج حول المساجد والمباني التي ظات صامدة رغم أنف هوج الرياح الصحراوية وغيرها. تصل الفتاة إلى ساحة المخبز حيث يصطف ثلاثون من النساء والرجال الطاعنين في السن في انتظار الرغيف المدعوم من الحكومة. إنهم يضحكون ويعبرون عن الشعور بالقلق ويتجادلون ويضعون وجوههم على القضبان المعدنية وهم ينظرون في الداخل مستغربين طول المدة التي أمضاها زاري في خبز دفعة أخرى من الرغيف. أما الصبية ذات الطبق الفضي فهي تتسلل عبر باب معدني حيث يوجد المزيد من الأطفال في الانتظار حاملين الأطباق والأقداح الخشبية التي يرصون عليها الخبز الحار الذي يخرج من فرن زاري ثم يضعونها على رؤوسهم بطريقة موزونة لتوصيل الخبز. يمثل الخبز في مصر حلقة وصل بين الشعب والدولة التي قطعت عهداً يعود إلى مئات السنين بأنه بالغاً ما بلغ الفشل فإنه سوف لن يطال الخبز الذي سيظل موجوداً على الدوام. وقد اندلعت أسوأ المظاهرات وأحداث الشغب التي شهدتها مصر في عام 1977م عندما توقفت الحكومة عن دعم الخبز. وسرعان ما أعيدت الأمور إلى نصابها. يقول محمد صالحين مدير المخبز: «إن الخبز بالنسبة لنا مثل الروح. إنه الأرخص ثمناً والجزء الأغلب في أي وجبة. أرادت الحكومة قبل ثلاثة أشهر زيادة سعر الخبز الذي نقوم بخبزه قائلين إن السعر سيرتفع ولكن سوف يرتفع معه مستوى الجودة. جن جنون الناس وطار صوابهم فصرفت الحكومة النظر عن الزيادة.» تتسلل خيوط ضوء الشمس عبر فتحة في سقف المخبز حيث يقف زاري حافي القدمين في الدقيق المنثور وهو يطالب الصبية العاملين معه بالإسراع في عجن الدقيق. يأخذ عيد عبيد قسطاً من الراحة من العجن. لقد قدم عيد من مدينة زراعية تقع إلى الجنوب من القاهرة عندما كان في سن السادسة عشرة بعد أن أخبره والده بأن المزرعة وحدها لا تكفي لإعالتهم. وقد جاء والتحق بالعمل في المخبز وكان يرسل المبالغ المالية إلى ذويه متى وجد إلى ذلك سبيلاً ولكن لم يعد بمقدوره إرسال أي مبالغ حالياً. فهو في الرابعة والثلاثين من عمره والدقيق يغطي شعر رأسه. يتحدث عيد في هذا السياق قائلاً: «لقد كنت معتادا على أن أرسل شيئاً من المال إلى أهلي حيث أتقاضى عشرين جنيها في اليوم وهذا يكفي لتدخين لفافات التبغ. هنالك شيء واحد فقط أتمناه في حياتي وهو أن أتزوج ولكنني بالكاد أقوم بإطعام نفسي كيف يمكنني تدبير نفقات الزواج وشراء عفش جديد؟» يحدق عيد النظر بعيداً ثم يحدق في يدي زاري بطريقة تبدو كطريقة التنويم المغنطيسي سواءً بسواء. يقول سيف أحمد إنه لديه سبعة أطفال ويضيف قائلاً وسنه الفضية تتلألأ وسترته القصيرة تتدلى من كرشه كما الخيمة الصغيرة: «أثنان من أبنائي يعملان معي للحصول على مزيد من الدخل قصارى ما أريده هو أن أعيش كما يعيش البشر العاديون أما الآن فلا أستطيع أن أحصل على اللحم في وجبتي إلا بمعدل مرة واحدة فقط في العام.» لقد نشأ سيف وترعرع في هذه المنطقة عندما بدأ الزحف الصحراوي يلتهم أطراف المدينة ويقترب رويداً رويداً من مركزها وعندما لم تكن ضفاف النيل على ذلك القدر من الازدحام والتكدس. إن القاهرة مدينة كبرى في الوقت الحالي ولكن الحياة فيها تتصف بالحميمية والدفء مثل أسرة ممتدة بلا انتظام ومتمددة بلا اتساق ويحمل أفرادها ذكريات مشتركة. فهو يعرف جميع الوجوه التي تصطف في انتظار الخبز. يقول عيد بحديث ليس موجهاً لأحد بعينه: «آمل ألا يبدأ الناس في الشوارع الاشتباك مع بعضهم البعض. آمل أن تنتهي الأمور بدون أضرار وخسائر» تساءل أحدهم قائلاً: «هل سوف ينخرط زاري في المظاهرات؟» أجابه صالحين بقوله: «إذا شارك فمن ذا الذي يخبز لنا الرغيف؟» ضحك الحضور صغاراً وكباراً. صالحين رجل ممتلئ الجسم يرتدي بذلة رمادية اللون وله شارب يحتاج قطعاً للتهذيب والتشذيب. يتحرك صالحين من جهة زاري متوجها نحو الباب المعدني حيث تضغط وجوه الناس من الخارج إلى الداخل. فالناس يريدون الخبز. يقول لهم: «إنه قادم» بيد أن جوالات الدقيق التي درجت الحكومة على توفيرها يومياً لم تصل بعد. فقد تسببت المظاهرات في تأخيرها وتسبب المتظاهرون في تعطيل مصالح الناس الذين يمكنهم رؤية المنازل التي تشتعل فيها النيران وهي تلوح في الأفق ولكنهم قلما يستغربون لو أن الحياة سوف تتحسن. يقول صالحين: «إنهم ليسوا بقلقين. فالخبز على موائدهم إنهم لا يهتمون بالسياسة وقصارى ما يعرفونه هو أنه ينبغي لهم أن يصطفوا هنا في كل صباح.» يفتح صالحين الباب ويدفع جموع المنتظرين إلى الخارج.