تقنية الحمض النووي (DNA) من أهم الأدلة الجنائية للكشف عن المجرمين، وترقى إلى مرتبة الاعتراف الذي يعد "سيد الأدلة"؛ على اعتبار أن هذه التقنية هي دليل القاضي على إثبات الكثير من القضايا المجهولة، وهي مصدر يعتمد عليه أمام "الادعاء العام" لتوجيه التهمة، وهي أيضاً "حجة إفحام" للمتهم.. "كل شيء مكشوف.. بدون لف ولا دوران.. اعترف أفضل لك".. وعلى الرغم من نجاح تقنية الحمض النووي في قضايا النسب و"مسائل اللعان" التي هي أخطر من كشف جريمة، إلا أن استخدام هذه التقنية لا يزال محدوداً، ولم يفعل كعنصر تهديد أمام اللصوص الذين طال شرهم "مساكن العزل"، ودخلوا عنوة وسلبوا ما فيها.. في هذا التحقيق استطلعنا عدة آراء مختصة في هذا الجانب وخرجنا بالتالي حول إمكانية تطبيق هذه التقنية وما هي سلبياتها وإيجابياتها على المستويات الشخصية والإجتماعية والقضائية. كتاب مفصل بداية يقول الباحث في علم الجريمة والعقوبة د. مضواح آل مضواح: "لا يقتصر استخدام الحمض النووي كدليل جنائي، بل يوجد له تطبيقات أخرى مهمة كثيرة، كالعلاج، والحمية، وتعقب الفيروسات، وإثبات الأبوة والأمومة، ورسم خريطة واضحة لأسرار الإنسان البيولوجية والأمراض التي سبق أن أصيب بها، وتلك التي سيصاب بها، فالحمض النووي كتاب مفصل يروي قصة حياة الإنسان بأمانة ودقة متناهية، وتصل كفاءة بصمة الحمض النووي في هذا الجانب إلى 100%، وليس هناك أي فرصة لتماثل شخصين فيها"، مشيراً إلى أن بعض الدراسات تؤكد على أن عدد الاختلافات بين شخص وآخر في هذا الجانب تبلغ ثلاثة ملايين اختلاف حتى اليوم، وحتى بين الوالدين وابنهما لا يوجد تماثل تام بل تطابق في نصف خطوط الجين الوراثي مع أصلها عند الأب، والنصف الآخر عند الأم، في الوقت الذي يظل هذا العدد من الاختلافات قائماً بين الابن وأبويه، غير أن هذا التطابق النصفي في الأصول الجينية الوراثية لا يمكن أن يوجد إلا بين الابن وأبويه، ومن هنا كان دليلاً قاطعاً على إثبات البنوة في حال وجوده، أو نفيها حال انعدامه، ويمكن الحصول على النتائج نفسها في جميع التطبيقات حتى من رفات مضى على موت صاحبها ملايين السنين. لو عرف المجرم أنه «مكشوف.. مكشوف» ما أقدم على فعلته وبقي عاجزاً عن الحيلة والإنكار رخص الإنسان وحول عدم تفعيل بصمة الحمض النووي في القضايا الجنائية، أكد د. مضواح على أنها مفعلة في جميع دول العالم تقريباً، لكن بعض الحكومات تعزف عن تطبيقها في جميع القضايا؛ بسبب كلفتها العالية ورخص قيمة الإنسان فيها فتكتفي بوسائل إثبات أخرى حتى وإن كانت لا تفي باشتراطات حقوق الإنسان، وبعض الحكومات تطبقها بانتقائية تجاه القضايا المتعلقة بمصالحها مباشرة؛ فتوعز إلى السلطة القضائية باعتماد بصمة الحمض النووي تارة، وعدم قبولها تارة أخرى إذا كان إثبات التهمة بشكل قاطع يضر بمصلحتها كأن يكون المدعى عليه محسوبا على الحكومة. دليل قاطع وأشار د. المضواح إلى أنه بالإمكان تعميم بصمة الحمض النووي على جميع النطاقات التي تتطلب دليلاً قاطعاً على صلة صاحب البصمة بالعينة المأخوذة منه أو الموجودة في مسرح الجريمة، بمعنى أنها دليل قاطع على نسبتها له، ويمكن أن يكون هناك بنك لبصمة الحمض النووي لجميع المقيمين على أرض الدولة، وقد بدأت عدد من الدول في تطبيقات هذا البنك، منها أمريكا، وبريطانيا، وكندا، والإمارات العربية المتحدة، وهذا الإجراء له دور بالغ الأثر في كشف الجناة في القضايا المقيدة ضد مجهول، إذ يكفي استخراج بصمة الحمض النووي للمتعلقات الموجودة في مسرح الجريمة وعلى جثة الضحية ثم إدخالها في الحاسب الآلي ليبحث عن صاحب هذه البصمة في مخزونه السابق إن كانت معلومات هذه البصمة قد حفظت فيه مسبقا. لكن مع وجود هذا البنك فإن الأمر لا يخلو من صعوبات جمة في سياقاتها الأمنية والإنسانية والاجتماعية. التقنية وسيلة إثبات لم يتم تفعيلها لتخويف المجرمين جني الفوائد وأوضح بأن البشرية إذا ما أرادت أن تجني فوائد البصمة الوراثية، وتتجنب سلبياتها الخطيرة؛ فلا بد أن يكون بنك الحمض النووي من أسرار الدولة ومقومات أمنها الوطني، ويقتصر استخدام الأسرار التي يحويها الحمض النووي على كشف المجرمين بشكل مطلق، وأن تكون هناك معاهدة دولية صارمة تنظم استخدام هذه التقنية الخطيرة، وتجعل استخدامها لغير ذلك انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، وجريمة ضد البشرية، وما لم يفعل ذلك فإننا على أبواب تقنية تهدد استقرار البشرية، بل وتهدد وجودها على المدى المتوسط وليس البعيد. عناية القضاء وحول استخدام تقنية الحمض النووي في المحاكم، أكد وكيل وزارة العدل للشؤون القضائية د. عبدالمحسن بن زيد المسعد على أن الحمض النووي من وسائل الإثبات الحديثة التي يعتني بها القضاء وجهات التحقيق، في إثبات القضايا الجنائية، وكذلك المدنية، في حال الحاجة إليها، وقد صدرت أحكام شرعية معتمدة على هذه التقنية، والقضاء لا يشك أبداً في كونها وسيلة إثبات في منتهى الدقة، مدركين بأن ثمة قضايا يتطلب استخدام الحمض النووي فيها كوسيلة إثبات إلى تقرير مبدأ قضائي تحفه الضمانات الشرعية والنظامية، وعلى الأخص رعاية مقاصد الشريعة الإسلامية. اللواء علي الغامدي تعاون أمني وأشار اللواء علي الغامدي مدير شرطة جدة إلى أن الأجهزة الأمنية والحكومية في المملكة تستعين بالأدلة الجنائية في الشرطة، وهناك تعاون دائم وقائم مع جميع الأجهزة الأمنية والحكومية الأخرى، وأيضاً على مستوى الجامعات مع جامعة الملك عبدالعزيز، طلبة قسم الكيمياء يتدربون لدينا وأصبحنا نقدم العطاء وجميع النتائج لجميع الأجهزة المعنية، كما أن كارثة سيول جدة التي حدثت العام الماضي أسهمت في كشف الجثث المجهولة، مشيراً إلى أن نسبة الجرائم انخفضت عن الأعوام السابقة؛ نتيجة العمل الاحترافي في المراكز والاستعانة بأسرار كشف الجريمة التي تستعين بها الأدلة الجنائية التي تعتبر العمود الفقري لجميع القضايا الأمنية. د. عبدالمحسن المسعد أدلة ظنية وأشار د. هادي بن علي اليامي عضو لجنة حقوق الإنسان العربية إلى أن البصمة الوراثية تتميز بأنها دليل إثبات ونفي قاطع بنسبة 100% إذا تم تحليل الحمض بطريقة سليمة لأن احتمال التشابه بين البشر في الحمض النووي غير وارد، ويمكن أخذ البصمة من أي مخلفات آدمية سائلة سواء دم أو لعاب أو خلافه، ويمكن أيضاً أخذها من الأنسجة كلحم أو عظم أو جلد أو شعر، ولذلك فهي تغني عن عدم وجود آثار للبصمات وتتميز البصمة الوراثية بمقاومتها لعوامل التحلل والتعفن والعوامل المناخية المختلفة من حرارة وبرودة ورطوبة وجفاف لفترات طويلة جداً. وأضاف: وعلى الرغم من تأكيد بعض العلماء بدقة البصمة الوراثية فإن هناك تحذيراً من البعض الآخر بوجود شك في بعض نتائجها مما يجعلها من الأدلة الظنية فقط بسبب ما يحدث أحياناً من أخطاء بشرية أو مخبرية أو حدوث أي تلوث تتعرض له العينة قد يؤثر في دقة النتائج أو عندما يتم فحص عينات مختلفة على طاولة واحدة في المعمل نفسه، لتكون الخلاصة أن احتمال الخطأ وارد. د. هادي اليامي دليل مادي وأوضح د. اليامي بأن مجمع الفقهي الإسلامي تصدى لهذا الأمر وأصدر في جلسته المنعقدة بمكة المكرمة عدداً من التوصيات والقرارات التي تنظم عملية الأخذ بالبصمة الوراثية - من الناحية الشرعية - كدليل مادي في القضايا الجنائية وقضايا البنوة، والتي قرر فيها أن الخطأ في البصمة الوراثية ليس واردا من حيث هي، وإنما الخطأ في الجهد البشري أو عوامل التلوث ونحو ذلك، كما أوصى المجمع الفقهي، أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة وأن تمنع القطاع الخاص الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى، وتكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة يشترك فيها المتخصصون الشرعيون والأطباء والإداريون وتكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة الوراثية واعتماد نتائجها، وأن توضع آلية دقيقة لمنع الانتحال والغش ومنع التلوث وكل ما يتعلق بالجهد البشري في حقل مختبرات البصمة الوراثية حتى تكون النتائج مطابقة للواقع، وأن يتم التأكد من دقة المختبرات وأن يكون عدد المورثات (الجينات المستعملة للفحص) بالقدر الذي يراه المختصون ضرورياً دفعاً للشك.