أي قارئ محايد، لأية منظومة عقائدية منغلقة على ذاتها، لا بد أن يلاحظ أن أصولها ويقينياتها تحضر في الواقع بوظائف نفعية صريحة، تستلزم الأدلجة، مما يجعلها عرضة لبعض التحولات التي يتم تبريرها بتحولات الرؤية العامة، أو حتى بمبرر الاضطرار... تنتمي الإسلاموية المعاصرة، في بُعدها العقائدي، إلى التقليدية الاتباعية ، تلك التقليدية الأثرية التي تحكمها شبكة من الثوابت القطعية والمسلمات اليقينية التي تشدها إلى وقائع ومقولات وتصورات لا تقبل نظريا الجدل فيها ، ولا الخلاف حولها . فالتشديد على الثابت مقابل والمتغير، والمطلق مقابل النسبي ، والقطعي مقابل الظني ، هو ما يُشَكّل ( هوية ) المنظومة التقليدية الأثرية التي أنتجت وتنتج الحركات الإسلاموية المتشددة ذات النفس التكفيري المتشرعن بقوة رسوخ تلك الثوابت الموهومة في وعي التقليديين . الإسلاموية المعاصرة، بكل تنويعاتها وأطيافها، هي التجلي الواقعي المعاصر للرؤية التقليدية التي تمتد في التاريخ إلى بدايات القرن الثاني الهجري. ف( هوية ) هذه من ( هوية ) تلك !. ولا تستطيع الإسلامية المعاصرة، خاصة في تمظهراتها العنفية ذات البعد التكفيري، أن تتشرعن في الواقع إلا بالاتكاء على مقولات التقليدية التي تشرعنت في الوعي العام، لا بقوة منطقها ، فلا منطق لديها ، وإنما بطول أمدها ، وبالاعتياد الجماهيري عليها ، وبتفردها لأسباب شتى بالساحة الدينية / الثقافية ، إلى درجة الهيمنة المطلقة على الوعي العام . تعتز التقليدية ، ومن ورائها الإسلاموية المعاصرة ، بأصولها ذات الطابع الثبوتي. وهذه الأصول ، هي مشاريع مفاصلة بين كفر وإيمان ؛ بقدر ما هي ثابتة ويقينية ، بل وبقدر ما يُفترض فيها الوضوح افتراضا ، وأنها من المعلوم ضرورة لا اختيارا . أنها تلك الأصول المفترضة ، الأصول التي أفرزها المذهب ، أو التيار ، أو الطائفة ، أو حتى الحزب السياسي ، وجعلها من ( أصول الإسلام ) التي لا يقبل الخلاف فيها إلا على أساس التمييز بين مؤمن وكافر . أي أنها أصول لم يتم وضعها لأنها يجب أن تكون كذلك وفق سياق المنطق الديني / المذهبي ، وإنما تم وضعها لتكون أداة نفي ال( الآخر )، بعد دمغه بتهمة الكفر البواح الذي يرمي به في دائرة الأعداء. كل هذا طبيعي ، وهو معروف لكل متأمل في التاريخ العقائدي للمذاهب والفرق والطوائف . وهو بقدر ما هو طبيعي في سياق عمليتي : التدين والتديين ، هو في الوقت نفسه طبيعي على مستوى الحضور السوسيولوجي العام . لكن ، ما ليس بطبيعي ، وليس بواقعي ، هو أن تكون تلك الأصول الثابتة ، واليقينيات القطعية ، عرضة للانتهاك الدائم ، والصريح في كثير من الأحيان ، من قِبل مُدّعي الحفاظ عليها . ليس من الطبيعي أن يتم تعاطي العقائدي مع أصوله ويقينياته بأسلوب براجماتي ( = نفعي ) في غاية الابتذال والافتضاح ، في الوقت الذي يُشدّد فيه ، إلى درجة المفاصلة بين الكفر والإيمان ، على أن أصوله ويقينياته التي يدعي أنها متعالية على ضروريات الزمان والمكان لا علاقة لها بالمردود النفعي ، وأنها تتنزل في الواقع لوجه الله . وإذا كانت هذه النزعة البراجماتية تظهر أشد ما تظهر ؛ عندما تتحول منظومة الأصول والقطعيات إلى إيديولوجيا صريحة تتمظهر في حضور مؤسسي ذي عوائد نفعية مباشرة ، فإنها قد تظهر في الصراعات الطائفية والمذهبية التي تُباشر عملية الانتفاع المباشر من المخزون الجماهيري ، مخزون المشاعر ، ومخزون المادة القابلة للتوظيف في تحويل مجريات الصراع . إن الأصول والقطعيات التي كفّرت بها كلُّ فرقة أو طائفة الفرقَ أو الطوائفَ الأخرى ، يُمكن تنزيلها على ذات الفرقة أو الطائفة التي صنعت الأصل الذي يجري التكفير على أساسه . ومع احتمالية التطبيق من داخل الفرقة الواحدة على بعض المتمردين نسبيا من أبنائها ، إلا أننا نلاحظ أنها تتنزل في الواقع بواسطة عقلية الصراع المشدودة إلى أبعاد نفعية خالصة ، أبعاد مرتبطة بمصلحة الفرقة أو المذهب أو الطائفة ، أو حتى بالمصلحة المباشرة لبعض القائمين عليها . عندما نتفحص تاريخ الصراع العقائدي، نجد أنه صراع مشدود إلى الواقع ، مشدود إلى مستويات متباينة من التجاذبات ذات النفس النفعي الخالص . صحيح أن هذا النفس النفعي قد يخفى أحيانا تحت صخب الادعاءات العقائدية العريضة ، لكنه سرعان ما يتكشف ، بل ويفتضح ؛ بمجرد وضعه تحت مناهج التحليل التي تمتلك الحياد النسبي تجاه متعاليات العقائد وفرضيات الإيديولوجيا . أي قارئ محايد ، لأية منظومة عقائدية منغلقة على ذاتها ، لا بد أن يلاحظ أن أصولها ويقينياتها تحضر في الواقع بوظائف نفعية صريحة ، تستلزم الأدلجة ، مما يجعلها عرضة لبعض التحولات التي يتم تبريرها بتحولات الرؤية العامة ، أو حتى بمبرر الاضطرار ! . الرؤية المتعالية ذاتها ، تتحول بصورة تدريجية ، وعبر فضاءات الذهنية العامة التي تحكم المنظومة، إلى رؤية نفعية ، رؤية تنضح بنفعيتها حتى قبل أن تتجسد في الواقع . وهذا طبيعي ؛ لأنها هي المقدمة الافتراضية للفعل الذي يجري تبريره ، أو الفعل الذي يجري استحضاره ليكون تجارة رابحة لهذا الطرف العقائدي أو ذاك . أدرك وأتفهم أنه يصعب التصريح هنا بكل ما يجب أن يقال في هذا المجال ، وأن التنظير في حدود المستوى التعميمي هو الممكن في هذا السياق . لكن ، هناك من الأمثلة ما هو موضوع جدل دائم من قبل الجميع ، وهو صورة واضحة لتناقضات التقليدية حتى في أشد خصائصها متانة وصلابة ؛ كما تدعي . فالغلو مثلا وما يتفرع عنه وعليه من أحكام ، هو من الأصول التي تجري المفاصلة عليها . التصدي للغلو ، من ناحية التنظير المبدئي ، هو من أجمل ما تطرحه التقليدية الأثرية في دعاياتها أو دعاواها . لكن ، عندما تتأمل كيفية تعاطي التقليدية مع هذا الأصل، تجد أن هذا الأصل مُوجّه للآخر ( الآخر من خارج التقليدية الأثرية ) فقط ، بحيث يجري نفيه وإقصاؤه بواسطة تضخيم هذا الأصل في الوعي التقليدي العام . بينما الذات لا تحاسب على أي غلو ، بل يتم تشريع غلو ( الأنا ) بوصفه من مظاهر التبجيل والتعظيم والاحترام !. الأصل الثابت المتعالي على كل متغيرات الزمان والمكان ، يجب أن يكون حَكَماً على سلوك الجميع ؛ أو لا يكون . لكن ، حضور الأبعاد النفعية في التفكير والسلوك ، يستلزم براجماتية الرؤية والفعل عند الإنسان . وبقدرما يتم الترويج لعدالة المبدأ أو الأصل ، يجري توظيفه بعيدا عن فرضيات العدالة . إنه يصبح مجرد أداة لقمع وتشويه وتكفير الآخر . لا يخفى على أحد أنه يوجد داخل التقليدية الأثرية التي تتزعم محاربة الغلو ، من يدعي أن من يُعادي رموزه ، أو يكره شيوخه ، فهو بالضرورة معادٍ وكاره للإسلام ذاته ، أي أنه ( كافر ) . وهكذا تم وضع بعض الأشخاص مقام الإسلام ذاته ( طبعا بمبررات شتى ) دون أن يكون الاتهام بالغلو الكفري حاضرا هنا ، بل يتم قلب هذا السلوك ؛ ليكون من دلائل الإيمان والإخلاص للفرقة المعصومة ! . بينما لو كان من أصدر هذا الحكم ذاته من الطرف الآخر ؛ لتم وضعه في خائنة : مُقدسي البشر ، الذين سيقودهم غلوهم إلى عبادتهم / الكفر ، ومن ثم إلى النار . في إحدى المسائل التاريخية التي كفّرت بها التقليديةُ الأثريةُ كثيرا من الناس ، بل كثيرا من العلماء ، حتى داخل دائرة السنة ، تم التمييز في تنزيل حكم الكفر بين حاكم وبين آخر من بقية المحكومين . الخليفة ( وكان عالما ، وعارفا بأبعاد مقولته ، فلا عذر بجهل ) الذي يتبنى المسألة التي يجري التكفير عليها ، ويمتحن الناس بها ، يتم إعفاؤه من حكم التكفير ، بينما يتم إنزال الحكم ( = الحكم بالكفر ) على بقية المساكين / المحكومين ، بل حتى على من تورّع واختار التوقف في مسألة ميتافيزيقية لا يوجد فيها نص صريح . التقليدية لم تميز بين ( حاكم ) و ( محكوم ) في تنزيل حكم الكفر لجهل منها بأبعاد سلوكها ، ولالتباس المقولات عليها ، وإنما لأن المبدأ النفعي يفرض عليها ذلك. فتشددها في المسألة إلى درجة تكفير هذا أو ذاك من عرض الناس ، يمنحها زخما جماهيريا واسعا ، بينما تنزيل الحكم ذاته على من يمتلك السلطة ، السلطة الواسعة الممتدة من حدود الصين إلى ضفاف الأطلسي ، سيجعلها أثرا بعد عين !. وهكذا تظهر البراجماتية النفعية في أشد صورها وضوحا وافتضاحا وكشفا لملابسات تقرير الأصول وتحديد الثوابت والقطعيات، سواء في حدود الرؤية ، أو في حدود الفعل . وكما في هذه المسألة والمسألة التي قبلها ، تفتضح الإسلاموية المعاصرة ( = التجلي المعاصر للتقليدية ) في مسألة ( الموالاة ) التي يتم تطبيقها بنفس براجماتي واضح على الواقع الراهن ، وعلى وقائع التاريخ أيضا . فالتقليدية الأثرية لا تكفر حركة ( حماس ) مثلا ، مع أن حماس هي أقوى الحلفاء في المنطقة لمذهب تراه التقليدية الأثرية كفرا بواحا . أيضا ، تحالفات الحركات الجهادية الأفغانية مع أمريكا في فترة ما ، لم تجعلها التقليدية من نواقض الإيمان ؛ لأن تلك الحركات كانت إحدى دعائم المشروع التقليدي . وفي التاريخ نجد أن الخليفة الذي كان يحكم من الصين إلى ضفاف الأطلسي ، و تحالف مع شارلمان النصراني ضد مسلمي الأندلس ( فهو ليس مجرد حلف مع غير مسلم ، بل حلف مع غير مسلم ضد المسلم ) لم يجرِ تكفيره ؛ لأن تكفيره سيجر سلسلة من التداعيات العقائدية ، وسيعيد تفسير التاريخ بما ينقض مقولات التقليدية من جذورها. ولو أن أحدا اليوم قام ببعض ما قام به ذلك الخليفة؛ لتم وضعه في خانة : أكفر الكفار !. إن كل هذا يستدعي منا أن نكون واعين تمام الوعي بالأبعاد النفعية للأطروحات التقليدية ، وخاصة في قراءتنا لأصولها العقائدية التي تمارس من خلالها نفي الآخر بأية صورة من صور النفي. كل الحركات المتأسلمة اليوم، وكل التقليديات التي تقف خلفها، تمارس توظيف الأصول والثوابت تبعا لمقتضى العائد النفعي، دون أدنى تجرد لمنطق تلك الأصول والثوابت. بل إنها اليوم أصبحت تصنع الرؤى الكلية وفق ما يتوافق مع سياقها النفعي الخاص. وتبقى المشكلة أن الأغبياء وحدهم هم من لا يزال يتصور أن الأصول والثوابت هي التي تحرك سلوكيات التقليديين وما تتبعهم من حركات وجماعات . إن تلك الأصول حاضرة في الخطاب التقليدي لا لتكون هي الحاكمة بالأصالة على الرؤية والفعل ، وإنما تستحضر قسرا ليتم استغلالها أسوأ استغلال .