قبل سنوات عديدة، صادفني رجل قد حباه الله بسطة في الجسم، وأنا أمشي فأمسك بيدي بقوّة للسلام علي، وكانت يده خشنة ويعلوها الغبار. واستمررت في المشي متجهًا نحو موعد عندي، وظل يسير بجواري ويتكلم بصوت مرتفع متطايرًا من فمه رذاذ من شدّة الحماس، وأوضح لي أنه شاعر، ويرغب في معرفة رأيي في قصيدة معه. وكنت أردّ عليه باقتضاب، فاستعجل في المشي ووقف في وجهي مغلقًا عليّ المسار يطلب رأيي في قصيدته، فأخبرته أنني أحتاج إلى قراءتها أولاً، والوقت لايساعدني الآن، فأصر عليّ أن أقرأها حالاً لأنها قصيرة. تخلّصت منه، وذهبت إلى موعدي، ومن الغد قابلني مستفسرًا عن قصيدته. كانت كلامًا مصفوفًا بلا معنى. فأخبرته بطريقة لبقة أن عليه أن يُحاول ولكن يجب أن يقرأ قبل ذلك دواوين من الشعر العربي لكي يعرف على الأقل فكرة أوليّة عن الشعر. وفاجأني من الغد بقصيدة جديدة، وكررت عليه ماقلت. ولكنه ظل يزورني بين يوم وآخر ومعه في كل مرة قصيدة. ولمّا صرت لا أعطيه الاهتمام، أحضر لي كلامًا وأخبارًا يقول إنها قصة قصيرة، موضحًا أنه كذلك كاتب قصة قصيرة. ونصحته أن يعود فيقرأ في هذا المجال قبل أن يكتب. وظل الرجل يزورني فترة تزيد على الشهر، وفي كل مرة يُسلّم علي بيده الخشنة ثم يُخرج لي قصيدة أو قصة قصيرة ويطلب سماع رأيي. واللطيف في الأمر، أن كل نصوصه لا تتجاوز صفحتين، مما خفف عليّ مهمة القراءة. وكنت أكرر عليه تلميحات بأن عمله غير صالح، وفي تلميحات أخرى بأنه غير مؤهل لذلك، وأن الله قد منحه جسدًا ضخمًا يمكنه استثماره في عمل آخر. ولأنه لم يدرك ذلك، تأكدت أن الرجل ثقيل الفهم، فقلت له ذات يوم: هل هدّدك أحد بالقتل؟ فردّ بسرعة: لا، أبدًا. فقلت له: لاتكتب قصيدة ولا قصة إلا في حالة واحدة: لو هدّدك أحد بالقتل وطلب منك أن تفتدي نفسك بكتابة قصيدة أو قصة. فأجاب: ما أظن أحداً سوف يهددني بالقتل! هذه الشخصية تتكرّر علينا في الحياة بأشكال مختلفة، فقد تكون البلادة واضحة، وربما تُخفي الغباء وراء قشرة من السذاجة. فهناك، من تحاول جاهدًا أن تلمّح له عن تضايقك من حضوره أو من تدخّله في شؤونك، لكنه لايفهم ماتلمح له حتى يضطرك لقرعه بالتصريح المباشر. وهناك من تسعى بكل ما أوتيت من حكمة وحصافة لكي توصل له فكرة معينة بشكل غير مباشر؛ كأن يساعد شخصًا بما يستطيعه، أو ينتبه لتصرّفاته التي لاتليق، أو يشعر بظروفك فيقدّرها ويتوقف عن الإلحاح عليك، أو يُسارع بمعالجة أمر لايقبل التأخير..إلخ، ولكنه لايدرك ذلك إطلاقًا. ولأن التصريح في بعض المسائل يُحرج المرء أو يضعه في موقف صعب أو يٌقلّل من قيمته أمام نفسه، ولا تُريد أن تكون فجًا في تعاملك معه لكي لا تُوصف بالوقاحة؛ فكيف تتصرف؟ يرى علماء السلوك أن المسألة ترتبط بنمط الشخصية بما فيها من مكوّنات نفسية وثقافية، مضاف إليها المكوّن العقلي. وإذا سرنا مع التصنيف العام للشخصيات التي يضع شخصيات الناس في اثني عشر نمطًا، فإن ستة من تلك الأنماط –على الأقل- لا تتعامل مع التلميح بدرجة كافية. ومن بين الأنماط الستة، نجد أن ثلاثة منها تفهم التلميح وتسير معه فقط إذا حقّق لها مصلحة، لكنها تتجاهله إذا تعارض مع مصالحها. وينتمي إلى هذه الأنماط شخصية: الكذّاب، ويدخل معه المنافق، والظالم، والمخادع ، والبخيل ، ويدخل معه الأناني، والحسود، والجبان ، ويدخل معه الشكّاك، والمحافظ المفرط.. ومن الواضح أن هذه الأنماط تفهم التلميح، فالبخيل يعرف - مثلا- أن عليه أن يدعو الضيوف لوليمة لأنهم سيقيمون في البلد يومًا إضافيًا لكنه يُقرر بقصد أنه لم يفهم ذلك. والأمر نفسه مع الكذّاب والجبان. لكن، ماذا عن أولئك الذين لا يفهمون التلميح لا من قريب ولا من بعيد؟ يقول "جيم كاري" بطل فيلم "الغبي والأغبي" (Dumb and Dumber)، هناك المتبلّد بطبيعته وهناك من أصابه التبلّد لعارض صرفه عن التركيز. ووفقًا لهاتين الحالتين، نجد أن صاحب الحالة الثانية، ينتبه بعد التصريح له ويعترف بتقصيره في الفهم، أما المتبلّد بطبيعته، فلا حل معه إلا كما قال أبو الطيب: «العبد يُقرع بالعصا، والحرّ تكفيه الإشارة». والمراد بالحرّ هنا، الشخص الذي أحرز مجموعة سمات عقلية وأخلاقية، فمع الذكاء، هناك عزّة في النفس ونبل في الخلق تجعله يجمع بين ثلاث خصال: الصدق، والكرم، والشجاعة. والواقع أن الشخصية الحرّة، لاينتمي إليها من الناس سوى ثلاثة أنماط من بين الاثني عشر نمطًا. وتتفاوت الأنماط الثلاثة في درجة الحريّة بسبب ما يلتصق بتلك الأنماط من عوامل نفسية وثقافية. ولكن أصحاب تلك الأنماط الثلاثة يدركون المراد فيبادرون إلى الفعل ولايرضون لأنفسهم البقاء حتى مرحلة القرع بالعصا. وحينما قيل في المثل الشعبي: «العلم قطمة ملحة» كانت الإشارة واضحة إلى أن الخبر المهم هو تلميح. واستُخدمت كلمة "العلم" للدلالة على الخبر الذي له قيمة. وفي الثقافة الشعبية تأتي كلمة "العلوم" بمعنى الأخبار المهمة التي تستحق أن تُروى. و"قطمة" هي "قضمة" وتعني القطعة الصغيرة جدًا من "الملح". بمعنى أن جزءًا صغيرًا يمكن أن تتذوّقه من مادة الملح يكفي للدلالة على الملوحة، دون الحاجة لأن تأكل خيشة من الملح من أجل أن تتأكد بأنه - بالفعل - ملح!