تحضرني قصة طريفة «الفيلسوف وابن الذوات» مع بداية اختراع السيارة، عندما سار ابن أحد النبلاء في سيارته التي كان لا يزال نصفها الآخر عبارة عن دراجة هوائية، فلحق بفيلسوف مشهور كان يركب حصانه ولديه قناعة معينة حول فائدة ونجاح المخترع الدخيل، بادره ابن النبلاء بالتحية وسأله ساخراً ومتباهياً بآلته الجديدة على طريقة «شوفوني»: ألا تركب معي يا صاحب الحصان؟ رد عليه الفيلسوف: أما تراني أركب حصاني يا صاحب الدراجة؟ قال: ولكنك تركب حصاناً واحداً وأنا أركب أربعة أحصنة! ابتسم الفيلسوف، فيما مضى ابن الذوات بنشوته وتباهيه، واستمر هكذا إلى أن مر به الفيلسوف بعد دقائق وقد انكبت مركبته في إحدى القنوات المائية، وغاصت مقدمتها في الوحل فنادى عليه الفيلسوف هذه المرة من بعيد: ما ذا تفعل يا صاحبي.. هل تسقي الأحصنة؟ تعال اركب معي..!. حصان إبليس! قصة بقدر ما تحمله من طرافة، إلاّ أنها تحمل أيضاً إشارة أخرى لفطرة الإنسان مهما كانت ثقافته؛ لدرجة أن عالما مثل «اديسون» عندما أعلن اختراعه المصباح الكهربائي قوبل في بلده بشيء من السخرية والتشكيك، وان كان تشكيكاً مؤدباً لم يصل إلى حالة التوجس التي وصلت عندنا في فترة من الفترات إلى الرفض القاطع، بل التحريم المطلق أحياناً كما هي الحال مع الراديو والبرقية والتعليم الحديث والصابون ولبس الغترة البيضاء، وصناعات مماثلة اعتبرت عند بعضنا بدعاً مع بداية ظهورها حتى طالت حالة التوجس تلك السيارة والدراجة الهوائية «السيكل» في بعض مدن وقرى نجد، عندما أطلقوا عليه أي السيكل «حصان إبليس» وكان يعتقد بعضهم انه يدفع بواسطة شياطين الجن الذين «يتحالفون» مع سائقه حتى يثبتوه على ظهره أثناء سيره مقابل تنازلات ومعاهدات عقائدية، وشروط تمليها تلك الشياطين قبل خدمته، بل انه هو شيطان مخلوق من عظام، الأمر الذي جعلهم يتعوذون بالله منه سبع مرات، ويأمرون نساءهم بتغطية وجوههن عنه، وإذا لامس شيئاً من أجسادهم أعادوا الوضوء إن كانوا على طهارة، ويقفزون اثره إذا ما وجدوها أمامهم على الأرض بعد أن يبصقوا عليها، ودخل عند بعضهم ضمن المحذورات التي لا تقبل شهادة مرتكبها!. سيكل زمن أول الوسيلة الأكثر انتشاراً في القرى نشر الرذيلة وشرب «التتن» وقرنوا استخدام «السيكل» في ذلك الوقت واقتنائه بالفساد والفسوق، واعتبروه من الملاهي والبدع التي تشغل الناس عن الصلاة بالمسجد وأداء العبادات والعمل الصالح، كما اعتبروا سائقه ومقتنيه عنصر فساد في المجتمع، وخطراً يهدد بنشر الرذيلة وشرب «التتن»، والاستدراج المشبوه، وانضم صاحبه الى قائمة ما يعرفون وقتها ب»الدشير»، وأضيف لمصطلح الشتيمة التي يوصم بها هؤلاء اسم السيكل لتكون هكذا: «شرابة التتن مطردة الدجاج ركابة السياكل»، لا تعطى الرخصة إلاّ بعد أن يقدم شهادة تزكية من إمام المسجد.. أما الذين قبلوا به بعد ذلك ك»شر لا بد منه» فقد تعاملوا معه بحذر واستحياء، وقصروا استعماله على البالغين بشروط صارمة وثَّقتها نماذج من رخص السير الرسمية التي كانت تصدر حينذاك عن طريق هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «النواب» في بعض المدن في السبعينيات الهجرية، والتي لا تعطى إلاّ بعد أن يقدم شهادة تزكية واستقامة من إمام وجماعة المسجد، على أن يقتصر استخدامه في ساعات النهار فقط، وأن لا يحمل عليه شخص آخر -في إشارة إلى صغار السن-، وفرضوا عليه ضريبة سير في بعض مدن نجد وكانت عقوبة من يستخدمه دون رخصة الجلد ومصادرة السيكل. صورة نادرة لرجل يقود سيكله في النهار ويرفض أن «يردف» أحداً خوفاً من العقوبة ترخيص هيئة الأمر بالمعروف كانت تلك الرخصة تصدر من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في النموذج الآتي: صدر السماح (لفلان الفلاني) باستعمال السيكل لظروفه إلى ذلك من بيته إلى الدكان وما عدى ذلك لا يكون له رخصة إلا بشغل لوالده بشروط أن لا يخرج عليه (بالليل) ولا خلف (البلاد) ولا يردف (يركب) عليه أحد ولا يؤجره ولا يدخل عليه وسط الأسواق. اعتقدوا أنه يُدفع بواسطة «شياطين الجن» ويتطهرون منه ب«الوضوء»! ولكن في بعض المدن مثل الرياضوجدة كانت تصدر من المرور (قلم المرور) بشروط أخف، ويلزم اعتمادها وتوقيعها من أعلى سلطة عسكرية وهو مدير الأمن العام. قرنوا استخدامه بنشر الرذيلة وشرب «التتن» ومخاواة «الدشير».. مطاردة بين جمل وسيكل! من القصص ما رواه أحد كبار السن لعريس كان والد زوجته يحتجزها بمبلغ متبق من مهرها، فخطط للهرب بها خارج البلدة بعد الاتفاق معها إلى مكان عمله في «شركة الجبس» بالرياض بعد ثلاثة أشهر من الزواج، واستخدم لتنفيذ خطته سيكلاً احضره معه وأخفاه بالقرب منهم؛ لكن والدها عندما سمع صيحات النجدة من والدتها قفز على ظهر «بعير» ولحق به لتستمر المطاردة إلى منتصف الليل، حتى تمكن من القبض عليه وتكتيفه بحبل، وفي صباح اليوم التالي اقتاده إلى شيخ البلدة وطالب بخلعها منه، وكانت حجته انه رجل «مارق» وانه يركب «حمار الكفار»!. رخصة قيادة سيكل في القرى صادرة من هيئة الأمر بالمعروف عام 1379ه ويذكر ل»الرياض» أحد سكان القرى أن أحد الشخصيات من هواة القنص كان يودع صقوره نهاية موسم كل قنص عند أحدهم لرعايتها وإطعامها، فأرسل له عام 1378ه تقريباً بندقية صيد وسيكلاً، إلاّ أن السيكل قوبل بامتعاض شديد وهدّد صاحبه بالطرد قبل أن يسرب وشاية: أن ابن إمام مسجد القرية الذي يقود الحملة لديه ايضاً سيكل يخفيه في الخرائب، ويصعد فيه لإخفائه في فروع الاشجار ليلاً، ثم ينطلق إليه خلسة كل ما حانت الفرصة، فكان أهل القرية يتتبعونهم ويلقون الاشواك ورمم الحيوانات الميتة على الطرق والممرات التي يسلكها هؤلاء، ويتواصون على استخدام سككها مكاناً لقضاء الحاجة ودفن القاذورات في طريقهم، واذا ما عثروا عليها قاموا بالانقضاض عليها وتمزيق عجلاتها بالسكاكين وهم يرددون (لا إله إلا الله واحدٍ ما غيره.. وإن قضبنا المشرك ما يفرفر طيره)!. عجلات السيكل بعد تشليحه بالكامل تأجير البسكليتات لكن عندما بدأ الناس في التخلص من بعض القناعات المتشددة الناتجة عن قلة الوعي وبساطة التعليم؛ انتشر استخدام الدراجة في المدن والقرى كوسيلة من وسائل المواصلات المهمة والسريعة وبديلة في بعض الأحيان عن الجمل والحمار، فاستخدمت في نقل وإحضار الاحتياجات المنزلية واستخدمها موظفو البريد رسمياً في إيصال وتوزيع الرسائل البريدية، واستخدم أيضاً في نقل البضائع الخفيفة والمنتجات الزراعية للاسواق، وفي التنقلات إلى مكان العمل، وفي بعض مدن رئيسة كان يستخدم «أجرة» في حمل الركاب وتنقلاتهم السريعة، وعرف داخلها ساحات مواقف «استيشن بسكليتات» يتوجه إليها طالب الخدمة ومع ذلك بقيت ترسبات نظرة الماضي مصاحبة لاستخدامه واقتنائه ربما إلى عهد قريب. رخصة قيادة سيكل في المدن عام 1376ه سيكل السكر ويذكر بعض أهالي الأسياح عن شاب مكافح كانت والدته قد اشترت له سيكلاً قبل نحو ستين عاماً، وكان عمره لا يتجاوز أربعة عشر عاماً فكان يذهب عليه إلى بريدة 60 كم، ويسلك جادة الإبل عبر طريق صخري شديد التضاريس وتسكنه الوحوش، ويشتري كمية قليلة من السكر لا يتجاوز وزنها خمسة كيلو غرامات كان (يصرها) بطرف غترته ويعود بها بعد يومين إلى ثلاثة أيام لبيعها بمكسب ضئيل، فكان في بعض الأيام يفاجئه المطر بغزارة فيذيب الكمية بالكامل ويتيبس على غترته؛ لذلك ما كان يستخدم رأس ماله الذي لا يتجاوز حينها خمسين ريالاً مرة واحدة؛ تماشيا مع قاعدة الحذر الاقتصادي (لا تضع البيض في سلة واحدة)، وفي إحدى المرات ربط عجلة دراجته الأمامية كالعادة بسلسلة لفها بجذع شجرة ووثقها بقفل من الحديد وذهب للصلاة، لكنه عندما خرج من المسجد لم يجد إلا العجلة الأمامية المربوطة بالشجرة واكتشف أن لصاً غافله قام بفك العجلة وفصل بقية السيكل الذي احضر له عجلة أخرى، لكنه واصل كفاحه حتى أصبح من كبار تجار الذهب والعقار -رحمه الله-. «سيكل الجمل» آحر التقليعات قبل عقدين من الزمن سيكل الطفولة يعيد أجمل الذكريات شبان في الستينيات يستعينون بالسيكل للتنقل بين الحواري