وكتب الأستاذ الأديب فهد بن عامر الأحمدي، مقالته اليومية، بعنوان (لولا صفير البلبل) التي نشرها في جريدة «الرياض» الغراء، في عددها الصادر يوم الخميس 9 ذي الحجة سنة 1430ه للهجرة، وكانت مقالته عن قصيدة (صوت صفير البلبل)، هذه القصيدة التي نسبها أحد القصاص الجهلة إلى الإمام عبدالملك بن قريب الأصمعي -رحمه الله- وهذا القاص يسمى محمد بن دياب الاتليدي من القصاص الذين عاشوا في القرن العاشر الهجري، وألف كتاباً أسماه (إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس)؛ والاتليدي قاص مصري من كتّاب عصر الانحطاط يحتوي كتابه على كثير من القصص والحكايات ذات التعابير الانحطاطية والألفاظ العامية، وقد استمد الاتليدي قصصه وحكاياته من كتاب (حلبة الكميت) لشمس الدين النواجي كما استمدها من كتاب (حياة الحيوان) للدميري . وكتاب الاتليدي (إعلام الناس) كتاب قصص وحكايات أكثرها لا يصدقها العاقل، كالقصة التي يرويها عن إبراهيم الموصلي، وابنه اسحاق وأبي نواس حينما اجتمعوا بإبليس.. والنواجي مؤلف كتاب (حلبة الكميت)، واسمه محمد بن حسن ابن علي بن عثمان النواجي، شمس الدين، ملم بالأدب، وله شعر، من أهل مصر مولده ووفاته في القاهرة ، نسبته إلى نواج من محافظة (الغربية بمصر)، رحل إلى الحجاز حاجاً، وطاف ببعض البلدان وله كتب أخرى وتوفي سنة 859 للهجرة. وكتاب (إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس) للاتليدي قد طبع عدة طبعات شعبية وآخر طبعة له، طبعة دار صادر اللبنانية سنة 1410 للهجرة.. وقد تولع أنصاف المتعلمين بالكتاب، فأعاد طباعته طبعة شعبية الأستاذ محمد سعيد بن حسن آل كمال، والسيد محمد المؤيد (رحمهما الله). ومما استرعى نظري خروج الكاتب الأديب فهد بن عامر الأحمدي، عن نهج مقالاته الجيدة، التي تعجبني وتستدعي التفاتي إليها، ومقالته اليومية، أبدأ بها قراءة جريدة «الرياض» الغراء صباح كل يوم، لما تحمله من علم وفوائد. ولقد ابتدأ الأستاذ الأديب فهد بن عامر الأحمدي مقالته (لولا صفير البلبل) بقوله: «في تراث كل أمة قصص عجيبة، عن شخصيات نادرة، تميزت بالحفظ الخارق، والتذكر السريع، وفي تراثنا العربي، هناك قصة معروفة عن الخليفة الرشيد، الذي كان يحفظ أي قصيدة يسمعها أول مرة، وغلامه الذي يحفظها للمرة الثانية، وجاريته التي تحفظها للمرة الثالثة.. ». والقصة التي ذكرها الأديب الأستاذ فهد بن عامر الأحمدي، قد وقعت كما يزعم صاحب كتاب (إعلام الناس) في عهد أبي جعفر المنصور، ولم تقع في عهد هارون الرشيد. ولكن الأستاذ الأحمدي بروايته هذه التي لم يشر إلى مصدرها، قد حجب عني الفرصة لمعرفة الزمن الذي وقعت فيه القصة. إذ ذكر الأستاذ الأحمدي أن القصة قد وقعت في عهد (هارون الرشيد). وقبل ان أتكلم عن قصيدة (صوت صفير البلبل) المنسوبة للأصمعي، وهي قصيدة تفشت فيها الأخطاء العروضية والنحوية واللغوية أوضح للقراء الكرام نبذة عن الإمام الأصمعي (رحمه الله). هو أبو سعيد عبدالملك بن قريب الباهلي، المعروف بالأصمعي ولد -رحمه الله- في سنة 122 للهجرة والتحق صغيراً بأحد الكتاتيب، واشتهر وهو شاب في حي (بني الأصمع) في البصرة، وكان ذكياً، محباً للشعر، ولما بلغ الرابعة عشرة من عمره، أخذ يتلقى دراسته على أبي عمرو بن العلاء علامة عصره في اللغة والأدب، ثم تعرّف على خلف الأحمر. وقد عاصر الأصمعي الإمام الخليل بن أحمد الفراهيدي، ودرس على الكثير من علماء البصرة.وكان من أعمامه: سلم بن قتيبة ابن مسلم الباهلي، والياً على البصرة، في عصر أبي جعفر المنصور، وكان سلم بن قتيبة موثوقاً به في الدولتين (الأموية والعباسية)، وكان من عقلاء الأمراء، عادلاً حسن السيرة، ومات بالري سنة 149 للهجرة. قال عنه ابن الأثير في (كامله): كان مشهوراً عظيم القدر، وكان سلم بن قتيبة الباهلي يشجعه على تحصيل العلم. ومن العلماء الذين عاصرهم الأصمعي: أبو عبيدة معمر بن المثنى وابن المقفع والشاعر بشار بن برد. وقد توفي الأصمعي (سنة 216 للهجرة، بعد ما قام بتأليف كتب ضخمة مستمدة من ثقافته اللغوية والنحوية، وكان يحفظ (رحمه الله) اثنتي عشرة ألف أرجوزة من أراجيز العرب، وتعد الأصمعيات أحد مصادر الشعر العربي الأصيل، وهي من كتب المختارات التي ظلت مصدراً لشعرنا حتى عصرنا الحاضر، وقد طبعت الأصمعيات في سنة 1902 للميلاد، بتحقيق أحد المستشرقين الألمان، ثم أعاد نشرها الأستاذان عبدالسلام هارون، وأحمد محمد شاكر -رحمهما الله- في سنة 1955 للميلاد. وأعود إلى مقالة الأستاذ فهد الأحمدي، التي روى لنا فيها قصيدة (صوت صفير البلبل) ونسبها إلى الإمام الأصمعي، كغيره ممن نسبها إليه، وذكر الأستاذ الأحمدي أن القصة قد وقعت في عهد الخليفة (هارون الرشيد)، وهي رواية لم يروها إلاّ الأستاذ الأديب فهد الأحمدي، ولم يشر إلى المصدر الذي استمد منه هذه الرواية، وهي رواية تخالف ما جاء في (إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس)، للاتليدي ،وانظر ص (119) طبعة دار صادر بيروت، سنة 1410 للهجرة، وانظر كتاب (مجاني الأدب في حدائق العرب) للويس شيخو ص (131) من الجزء الخامس، طبعة المطبعة الكاثوليكية ببيروت، سنة 1957م ، ولعل الأستاذ الأحمدي رأى بحصافته أنها وقعت في زمن الرشيد، فقام بتصحيحها لأن الإمام الأصمعي لم يبرز في علمه وثقافته إلاّ في عهد (هارون الرشيد)، إذ كان الأصمعي في عهد (أبي جعفر المنصور)، فتى قد عري من العلم والمعرفة ، ولم يكن من أهل الزلفى عند الخلفاء والأمراء والعلماء وكانت بداية صلة الأصمعي بالخليفة (هارون الرشيد) كما رواها السيد المرتضى في (أماليه):(الدرر والغرر) بسنده إلى الأصمعي، أنه قال- وسأسرُد ما قاله السيد المرتضى للقراء الكرام، وليصفحوا عني إذا ما أطلت الحديث، والحديث ذو شجون- قال الأصمعي -رحمه الله-:«تصرفت بي الأسباب على باب الرشيد، مؤملاً للظفر به والوصول إليه، حتى إني صرت لبعض حرسه خديناً في بعض ليله، قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد، إذ خرج خادم فقال: أما بالحضرة أحد يحسن الشعر، فقلت: الله أكبر رب قيد مضيق قد حله التيسير، فقال لي الخادم: ادخل، فلعلها ان تكون ليلة يغرس في صباحها الغنى إن فزت بالحظوة عند أمير المؤمنين، فدخلت فواجهت الرشيد في مجلسه، والفضل بن يحيى إلى جانبه، فوقف بي الخادم حيث يسمع التسليم، فسلمت فرد علي السلام، ثم قال: يا غلام أرحه، ليفرخ روعه ، إن كان وجد للروعة حساً! فدنوت قليلاً ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إضاءة مجدك، وبهاء كرمك مجيران لمن نظر إليك من اعتراض أذية. فقال: ادن، فدنوت، فقال: أشاعر أم راوية؟ فقلت راوية لكل ذي جد وهزل بعد ان يكون محسناً، فقال: تالله ما رأيت ادعاء أعظم من هذا. فقلت: أنا على الميدان، فأطلق من عناني يا أمير المؤمنين! فقال الرشيد: (قد أنصف القارة من راماها) ثم قال: ما المعني في هذه الكلمة، فقلت: فيها قولان: القارة هي الحرة من الأرض، وزعمت الرواة ان القارة كانت رماة للتبابعة، وهي قبيلة عربية من كنانة والملك إذ ذاك أبو حسان فواقف عسكره عسكر السغد، فخرج فارس من السغد، قد وضع سهمه في كبد قوسه، فقال: أين رماة العرب؟ فقالت العرب: «قد أنصف القارة من راماها»، فقال لي الرشيد: أصبت، ثم قال لي: أتروي لرؤبة بن العجَّاج، والعجَّاج شيئاً؟ فقلت: هما شاهدان لك بالقوافي، وان غيبا عن بصرك بالأشخاص. فأخرج من ثني فرشه رقعة ثم قال: أنشدني: «أرقني طارق هم أرقا»، فمضيت فيها مضي الجواد في سنن ميدانه، تهدر بها أشداقي، فلما صرت إلى مديحه لبني أمية، ثنيت لساني إلى امتداحه لأبي العباس في قوله: «قلت لزير لم تصله مريمه»، فلما رآني قد عدلت من أرجوزة إلى غيرها، قال: أعن حيرة أم عن عمد؟ قلت: عن عمد تركت كذبه إلى صدقه، فيما وصف به جدك من مجده، فقال الفضل: أحسنت، بارك الله فيك، مثلك يؤهل لمثل هذا المجلس، فلما أتيت على آخرها قال لي الرشيد: أتروي قصيدة عدي بن الرقاع: «عرف الديار توهما فاعتادها» قلت: نعم قال: هات، فمضيت فيها حتى إذا صرت إلى وصف الجمل، قال لي الفضل: ناشدتك الله ان تقطع علينا ما أمتعنا به من السهر في ليلتنا هذه بصفة جمل أجرب ! فقال له الرشيد: اسكت، فالإبل هي التي أخرجتك من دارك، واستلبت تاج ملكك، ثم ماتت وعملت جلودها سياطاً ضربت بها أنت وقومك. فقال الفضل: لقد عوقبت على غير ذنب، والحمد لله فقال الرشيد: اخطأت الحمد لله على النعم ولو قلت واستغفر الله، كنت مصيباً ، ثم قال للأصمعي: امض في أمرك.. والقصة طويلة... " ولعل أحد الشبان الجامعيين، ممن يهتم بتراثنا يقوم مشكوراً بقراءتها كاملة في كتاب (أمالي الشريف المرتضى)، طبعة الشيخ محمد أبو الفضل إبراهيم، وفي كتاب (الحديقة) للسيد محب الدين الخطيب -رحمه الله- والحديقة كتاب عظيم الفائدة، طبعه السيد محب الدين الخطيب في مطبعته السلفية سنة 1352 للهجرة، والسيد محب الدين الخطيب، خال للأستاذ الشيخ علي مصطفى الطنطاوي -رحمه الله- وكنت أزور شيخنا وأستاذنا السيد محب الدين الخطيب، في دارته في حي الروضة بمصر المحروسة، في شارع الفتح أزوره لأسعد بحديثه، وأتزود بما استجد من مطبوعات مكتبته القيمة، وكان كثيراً ما يصحبني لزيارته أخي وصديقي الأستاذ محمد سعيد بن حسن آل كمال، وأخي وصديقي الأستاذ محمد عمر رفيع -رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته-.. وأعود إلى قصيدة (صوت صفير البلبل) التي نسبت جهلاً، إلى العالم الكبير والإمام الفاضل عبدالملك بن قريب (بضم القاف) الأصمعي الباهلي.. ويرى القارئ في بعض أبياتها أبياتاً مكسورة، وأبياتاً شاع فيها الخطأ النحوي واللغوي، تقول القصيدة: صوت صفير البلبل هيج قلبي الثمل ولو قلنا لطالب في المرحلة الابتدائية، حين كنا نعلم النحو الواضح في المرحلة الابتدائية للأستاذين علي الجارم ومصطفى أمين، اعرب (هيج قلبي الثمل) وكسرنا اللام، من (ثمل) لأصابه الذهول. وأبيات القصيدة، تأتي عدة أبيات فيها، مكسورة ملحونة، واقرأ معي أيها القارئ الكريم: وقال لا لا للا وقد غدا مهرولي فالشطر الأول من البيت، لا يستقيم عروضياً إلاّ إذا قلنا: «وقال لي يا سيدي»، والشطر الثاني، قد دخله اللحن، ونجنبه اللحن إذا قلنا: (وقد غدا مهرولاً) والقصيدة لو استقامت عروضياً لعددناها من البحر الرجز، ولكنها قصيدة سقيمة ركيكة مهزولة، نسبها أحد الكذابين من الرواة إلى الإمام الأصمعي (رحمه الله).. وعفا الله عن الداعية الكويتي (القطان)، الذي ساهم في نشر هذا الكلام السخيف، لرجل قرزام، يبغض اللغة العربية، ويسخر منها، ويريد ان يلوثها بهذا الكلام الرديء، وكأني أنظر إلى الشاعر مروان بن أبي حفصة -رحمه الله- حين قال: زوامل للأشعار لا علم عندهم بجيدها إلاّ كعلم الاباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر وإذا أعدنا النظر فيما جاء عن (الأصمعي) حينما سأله الخليفة (هارون الرشيد) أشاعر أنت أم راوية، فيقول له الأصمعي: راوية لكل ذي جد وهزل، بعد ان يكون محسناً، ولم يقل الأصمعي: إني شاعر، لأن الأصمعي لم يكن شاعراً بإجماع من كتب عنه. وكان -رحمه الله- أحد أئمة العلم باللغة العربية والشعر، وكان الخليفة (هارون الرشيد) يسميه شيطان الشعر، ويقول عنه الأخفش: (ما رأينا أحداً أعلم بالشعر منه) أي أعلم بالشعر عروضياً ولغة وبلاغة ونحواً ومع ذلك نرى الاتليدي وغيره من المؤلفين الجهلة، ينسب إليه قصيدة مقرزمة لا يقولها إلاّ من أصيب بعته وخبال. أما من روى: بأن الأصمعي، قد قال هذه القصيدة المقرزمة في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، فأكرر ما قلته آنفاً: إن الأصمعي، في عهد أبي جعفر المنصور، كان فتى قد عري من العلم والمعرفة، ولم يكن من أهل الزلفى عند الخلفاء والأمراء والعلماء.