التاريخ غير دقيق في سرد الوقائع والحكم على الأشخاص والانجازات العظيمة.. فبالإضافة الى أنه يكتب "حسب الطلب" يجنح الى تمجيد الأفراد والطغاة وينسى جهود الشعوب والمجموعات.. فحين نقول مثلا إن جنكيزخان هو أعظم فاتح في التاريخ، أو إن صلاح الدين قضى على الصليبيين، أو إن خوفو بنى الأهرامات، أو إن شيهونغدي بنى سور الصين العظيم ... فنحن بهذا نتجاوز الحقيقة لأن من قاتل، وبنى، هم آلاف الجنود والعبيد والأفراد الذين لا يتسع التاريخ لذكرهم ولكنه يتسع لذكر من نطق بالأمر وأشار بالإصبع فقط !! ... ليس هذا فحسب؛ بل قد يظلم التاريخ حتى العظماء أنفسهم من خلال تجاهل أعمالهم العظيمة والاحتفاظ بالأكاذيب الشائعة حولهم.. خذ كمثال هارون الرشيد الذي شاع عنه حب الجواري وإقامة الليالي الحمراء وما نخجل من ذكره في ألف ليلة وليلة. ولكن الحقيقة هي انه كان قائدا شجاعا وحاكما صالحا يحج عاما ويغزو عاما آخر! ومن التاريخ الروماني شاع عن الامبراطور نيرون انه قتل أمه وزوجته وأمر بإحراق روما ثم أخذ يعزف على الكمان وهو يشاهدها تحترق. ولكن الحقيقة هي أنه سياسي محنك قتل أعداءه زوجته ووالدته في حين التهمت النار روما عفوا أما الكمان فلم يخترع الا بعد موته بقرون !! أيضا هناك كليوبترا التي غدت أنموذجا للإغراء والفسق والتهتك الانثوي وتصور حتى اليوم في الافلام الاجنبية كمثال للمرأة التي تستغل مفاتنها لتحقيق مآربها السياسية . ولكن الحقيقة هي انها كانت تتمتع بعقلية سياسية فذة وحافظت على وحدة مصر اثناء الاحتلال الروماني باستغلال انشقاق روما نفسها! أما قراقوش (الذي للأسف كتبت عنه مقالا قارنته بالرئيس بوش) فأمير أيوبي ألصقت به قرارات حمقاء جمعت في كتاب بعنوان الفاشوش في احكام قراقوش.. ولكن الحقيقة أن قراقوش (واسمه الكامل قراقوش بن عبدالله الاسدي بهاء الدين) كان قائدا مقداما نشأ في خدمة صلاح الدين وكان ينوب عنه في غيبته. ولما استرد صلاح الدين عكا من الصليبيين (وها أنا أنسب الفضل مجددا لأبو صلاح) لم يجد أكفأ منه لإمارتها.. ولكن لماذا يظلم التاريخ البعض ويعطي البعض الآخر اكثر مما يستحق فعلا!؟ لفهم هذه الظاهرة يجب ان نفهم أولا كيف نحكم نحن على بعضنا البعض.. فنحن في الواقع لانملك الوقت ولا الرغبة في تفصيل الآخرين أو النظر اليهم كخليط مشترك من الخير والشر.. فنحن نبلور بسرعة (توجها عاما) قد يُبنى في المرحلة الأولى على المظهر أو الاسم أو الخلفية الثقافية والاجتماعية.. ثم سرعان ما نعثر على ما يُحول توجهنا المبدئي إلى حكم متطرف وقرار صارم لا يقبل الوسطية ولا حتى النقاش والتغيير.. وبهذه الطريقة (يبقى الآخر دائما) على طرف نقيض ويصبح في نظرنا إما صالحا أو طالحا، عظيما أو وضيعا، عادلا أو ظالما.. وحين تبرز بين الناس شخصية معروفة لابد أن تبتلى بالحكم عليها بهذه الطريقة (إما أسود أو أبيض).. وما يرجح هذا الجانب أو ذاك قد يكون مجرد حادثة فردية أو نزوة شخصية أو حتى شائعة ملفقة ترفعه للسماء او تخسف به للأرض.. وحين يحدث ذلك تأتي أجيال لاحقة (لا تعرف الرجل ولاتملك مصادر للحكم عليه) فتتلقف أكثر الأحكام شهرة فتتبناها وتتعصب لها وتعطيها مزيدا من الرسوخ والتطرف... وبمرور الزمن ترتضي الأجيال الحديثة هذه التصنيفات كون قراقوش وهارون الرشيد وجنكيزخان لم يعودا بالنسبة لنا شخصيات من لحم ودم، بل مجرد نماذج ذهنية تُستدعى وقت الحاجة لضرب أمثلة على الجنون والمجون والقسوة والعبقرية... وكل ما يحفل به التاريخ من مواهب بشرية بشعة أو جميلة!!