"يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي" صدق الله العظيم. كان معالي الدكتور غازي بن عبدرالحمن القصيبي، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، من القلائل الذين تجعلهم إنجازاتهم يتخطَّوْن حدود العائلة والقبيلة لتشمل الوطن كل الوطن. وأنا أكتب هذه الكلمات أشعر أن العزاء والمواساة يجب ألا توجَّه إلى آل القصيبي وعشيرته وحسب ولكن إلى الوطن الذي أحبه القصيبي وعمل من أجله بكل إخلاص ووفاء. تشرفتُ بلقاء الدكتور القصيبي عدة مرات بصفتي أكاديمياً متخصصاً في مجال الاقتصاد. وأُعجِبتُ منذ اللقاء الأول بهمته وعزيمته وإصراره ورؤيته الثاقبة حول ضرورة تغيير هيكلية سوق العمل في المملكة إيماناً منه بأن هذه القضية تقع في صميم مستقبل المملكة واستقرارها وازدهارها. كثيرون هم الذين عارضوا عملية السعْودة، ولكنه كان يدرك بحسه المرهف ونظرته الثاقبة التحديات التي فرضت نفسها على المملكة والحاجة الملحة للتغيير وإيجاد الوسائل الكفيلة بتمكين المملكة من تخطي هذه الصعاب والانطلاق إلى آفاق أرحب. وانطلاقاً من إدراكه هذا وإيمانه بضرورة التغيير كان القصيبي يعلم جيداً أنه لا يمكن إيجاد الحلول الناجعة من دون توفير التدريب الجيد والتوقف عن السماح لمزيد من العمالة الوافدة من دخول البلاد والحرص على توفير التدريب المهني الأفضل للشباب السعودي وحض القطاعيْن العام والخاص على التعاون لتحقيق هذه الأهداف لأنه كان يدرك أن التدريب والمؤسسات المهنية يلعبان دوراً في مستقبل البلاد والشعب والاقتصاد كما كان يدرك رحمه الله، أهمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لما تمثله من ركائز وعوامل دفع لتطوير القطاع الخاص في البلاد. إرث عظيم هذا الذي تركه القصيبي كوزير للعمل، وكان بمثابة المهندس المعماري الذي يرى التحديات ويبحث عن الفرص ويحرص دائماً على تقديم أفضل الحلول العملية الممكنة لإحداث تغيير جذري في سوق العمل. لا يمكن أن أنسى عندما توجه المرحوم إلى وسائل الإعلام والصحفيين ليتوقفوا عن وصف أعمال الباعة على أنها أعمال وضيعة. وأضاف في معرض رده على سؤال وُجِّه إليه قائلاً: "إن بائع الخضار يمكن أن يكون أفضل بكثير من رئيس مجلس إدارة شركة كبرى. هؤلاء العمال هم أمل هذه الأمة وعلى وسائل الإعلام أن تدعمهم وتشجعهم وتشد على أيديهم بدلاً من إحباطهم. أعرف نوعيْن من الوظائف: حلال وحرام. فليس هناك أشرف من الانطلاق من أول درجات السلم والارتقاء إلى أعلى درجاته. فليس إنجازاً بنظري أن يجد المرء نفسه يتربع على القمة. إن صعود السُّلَّم درجة بعد درجة يعتبر إنجازاً حقيقياً يحقِّق الذات ويدعو للاعتزاز". إن الأهمية التي أولاها المرحوم للتدريب تشكل في حد ذاتها تحولاً حقيقياً يحتاج إلى وقت ليؤتي أُكُله ويتكلَّل بالنجاح. ونحن اليوم بأمسّ الحاجة للعمل يداً بيد في القطاعيْن العامّ والخاصّ حتى نحمي هذا الإرث وألا ندخر جهداً لإكمال المسيرة التي بدأها القصيبي وتحقيق التغيير الإيجابي الذي عمل من أجله في سوق العمل. لقد أدرك غازي القصيبي بعقله المستنير وقلبه المحبّ لوطنه أن الشباب المتعلم والمؤهَّل للاضطلاع بمسؤولياته هم محرك التنمية وقاطرة الازدهار والأمن والاستقرار. لقد غاب القصيبي بجسده ولكن رؤيته وأفكاره النيرة باقية قائمة بيننا وتستحق منا كل رعاية واحترام. * مدير عام وكبير خبراء الاقتصاديين في البنك السعودي الفرنسي