برسلاو اسم مدينة أوروبية؛ كانت جزءاً من بولندا ثم التشيك ثم ألمانيا ثم عادت إلى بولندا منذ عام 1945م، وارتبط اسمها بإحدى أشهر نسخ "ألف ليلة وليلة" منذ عام 1828م. وهي نسخة "برسلاو" التي صدرت بالعربية، وأعادت دار الكتب المصرية نشرها مصورة في اثني عشر مجلداً أنيقاً بعنوان "كتاب ألف ليلة وليلة من المبتدأ إلى المنتهى" بتصحيح "مكسيميليانوس بن هابخط". وقدّم لهذه الطبعة جابر عصفور الذي وصفها بكونها "أقرب إلى الروايات الشفاهية"، وكان من خصائص هذه النسخة أن أُعيد طبعها في الصورة التي ظهرت فيها مجلدات برسلاو، لتكون بهذا النسخة الثانية التي يمكن اعتمادها أكاديمياً بعد أن حقّق محسن مهدي نسخة "بريل" الهولندية في مجلد واحد في عام 1984م باسم "كتاب ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى". لا يهدف هذا التقديم للكتاب الذي تفضل أحد الأصدقاء بإهداء نسخة منه إلى مكتبتي إلى التعريف به؛ فقد حظي الكتاب بحضور قوي في كل الثقافات العالمية، ويُعد عند كثير من الأمم مصدراً من مصادر ثراء الآداب العالمية التي استلهمت حكاياته ووظفت شخصياته، لكن سياقات تلقيه التي رافقت نسخة برسلاو المصرية الحديثة من دعاوى في مصر تطالب بمصادرة الكتاب ومحاكمة القائمين عليه، لما يتضمنه من كتابات وُصفت بكونها خادشة للحياء العام دعت إلى تلمس جوانب التلقي للكتاب. لقد أضحى هذا التلقي السلبي أمراً معتاداً مع صدور كل طبعة جديدة للكتاب؛ ولو عدنا إلى الماضي لنقتطف من مجلة "المقتطف" وهي تنتقد طبع الكتاب ونشره عام 1880م، إذ يرى الكاتب أنه أعيد طبع الكتاب في مطبعة مصر والشام، طمعاً في الحصول على فوائد مادية، على الرغم مما في الكتاب من مشكلات أخلاقية، ولقد أشاروا إلى أن هدفهم هو تطوير الثقافة العربية، وكان عليهم أن يطبعوا كتباً ضرورية في موضوعات كالفيزياء والكيمياء والزراعة. أمّا يعقوب صروف فقد سأله أحد القراء في أحد أعداد المقتطف نوفمبر 1891م عن الفوائد التي يمكن استخلاصها من قراءة كتاب "ألف ليلة وليلة"، فأجابه: "في قراءتها شيء من التسلية، ولكن أضرارها كثيرة، فهي مشحونة بالأوهام والخرافات وحوادث الحب والغرام". لقد كان موقف مجلة (المقتطف) موجهاً إلى كتاب "ألف ليلة وليلة" ويمتد إلى الإيمان الكامل بضرر الروايات والأشعار (الحبية) التي يتداولها الأولاد، ورد ذلك في عدد أغسطس 1882م "لأن الشاب إذا قرأ رواية (حبية) جعل يستغنم كل فرصة لقراءة ما شاكلها من الروايات فيضيع وقته سدى ويفسد ذوقه ويهمل واجباته.. ولأن الطبع ميّال إلى قراءة هذه الكتب والتضرر بها". ومن ذلك ما أشار إليه محمد عبده الذي قسّم الأدب إلى قسمين: رسمي وشعبي، وأخرج كتاب "ألف ليلة وليلة" من الأدب الحق، إذ لم يرَ فيها سوى الضرر الأخلاقي واللغوي. لكن الآراء السلبية في استقبال كتاب "ألف ليلة وليلة" لم تستمر في قوتها، ولم تعد متوهجة كما كانت، فقد بدأت تتضح معالم بعض التحولات في تلقي الكتاب، وتتجلى في فترات مختلفة من 1881م إلى 1934م، إذ تبين أنه ما زالت هناك دوامة من الردود المزدوجة: التي راوحت بين الإيجابية والسلبية، وكان لتعدد وجهات النظر السلبية دورها في ظهور تيار إيجابي تجاه الكتاب، ومن المهم أن نشير إلى مقالة لكرم ملحم كرم نشرت في (الرسالة) في سبتمبر 1934م إذ تؤكد تحولات استقبال الكتاب لدى القارئ العربي، فهو يرى "ألف ليلة وليلة" وكتاب "كليلة ودمنة" سفرين مهمين تجاهلتهما الثقافة التي شُغلت بالمقامات، واعتبر إهمال الثقافة العربية سبباً في غزو الروائيين الأجانب، "فكل يوم يرزحان تحت غارة جديدة، وليست رواية (حديقة على العاصي) للفرنسي موريس باريس غير قبس من ألف ليلة. وما رواية (الأتلانتيد) لبيير بنوا غير صفحة من صفحات ألف ليلة وليلة". ويدعم هذه الرؤية ما أشار إليه روجر ألن Roger Allen في كتابه "مدخل إلى الأدب العربي" من تجاهل النقاد العرب ل "ألف ليلة وليلة" وغيرها من السرد الشعبي القديم التي لم تكن تعد من الأدب العربي. وكأنه بذلك يستعيد لنا مشهداً من استمرار التجاهل التراثي مع ابن النديم صاحب "الفهرست" الذي وصف الكتاب بأنه "غث بارد"، بعد أن قام بقراءته عدة مرات، وعّده المؤرخ المسعودي "أكاذيب وأباطيل". ولعلّ هذا يفسر إشكال الجنس الروائي الذي ورث هذه التركة الثقيلة من التراث، فاندرج في دائرة الآداب التي تضم ألف ليلة وليلة وسيرة عنترة، وسيرة الأميرة ذات الهمة، وسيف بن ذي يزن، وغيرها من السير التي كانت تُروى في مقاهي الحواضر العربية، حتى أفول النص الشفاهي المتداول مع ظهور وسائل الاتصال الجماهيرية كالراديو والتلفزيون، ونمو الفنون الحديثة كالرواية والمسرح. أمّا مجالات التلقي الإيجابي المستهدفة فيمكن أن ترتكن إلى مستويات أربعة: مستوى الطباعة والنشر، ومستوى الترجمة والنقل، ومستوى القراءة والنقد، ومستوى التوظيف والتأثر. فما يتصل بمستوى الطباعة والنشر يمكن ملاحظة بدء تداول نص "ألف ليلة وليلة" كتابياً منذ أن انتقلت بعض النسخ الخطية للكتاب بين الشام ومصر قرابة أربعة قرون من الزمن، وقد طُبِعَ الكتاب أول مرة في المطبعة الهندوستانية في كلكتا في الهند، وتم نشر مجلدين كبيرين أحدهما في عام 1814م، والثاني عام 1818م، ونشره الشيخ أحمد بن محمد شيرواني اليماني، ثم طبع في مدينة برسلاو 1824-1843م، فظهرت بعض أجزائه قبل تاريخ طبعة بولاق الأولى، تلا ذلك طبعة بولاق الأولى في 1835م، ثم ولي ذلك طبعة كلكتا الثانية 1839-1842م، وفي عام 1984م حقق محسن مهدي الكتاب في طبعة ليدن في مجلد واحد و282 ليلة، واعتمد فيه على عدد من المخطوطات ولاسيما مخطوطة المستشرق الفرنسي انطونيو غالان Antoine Galland، ثم تأتي نسخة برسلاو المصرية من دار الكتب 2010م. المستوى الثاني وهو المتصل بالترجمة والنقل ويمكن النظر إلى موقع الكتاب في الثقافة الغربية إذ سنلحظ قربه منها مبكراً مع بداية نقله إلى تلك الثقافة، وترجمته إلى لغاتها الحية ولاسيما في الثقافتين الفرنسية والبريطانية اللتين يحددهما إدوارد سعيد بوصفهما ثقافتين شكّلتا المشروع الاستشراقي الضخم في الحضارة الغربية، وهما الأكثر تأثيرا في الثقافات العالمية. ومن أشهر ترجمات الكتاب الشهيرة والمعتمدة تلك التي نقلها غالان إلى الفرنسية، وكانت في اثني عشر مجلداً، وقد نُشِرت في الفترة بين 1704 -1717م، مع عدد لا يحصى من الطبعات المنشورة باللغة الانكليزية من 1706م، من قبل إدوارد وليام لين Edward William Lane، التي نشرت في 1838 في سلسلة استناداً إلى طبعة بولاق الأولى 1835م، من قبل جون باين John Payne، ثم ريتشارد بيرتون Richard Burton الذي نشر عام 1885م. ويرى بعض المستشرقين أن الثقافة الغربية هي التي أبرزت الكتاب ليكون واضحاً في الثقافة العربية إذ لم يكن معروفاً لدى الأكاديميين العرب، ويمكن أن ننظر من زاوية أخرى إلى أن الثقافة التي حفظت الكتاب فترة زمنية طويلة لم تقصه تماماً من دائرة اهتمامها، ولها فضل تقديمه إلى الثقافة الغربية. ويعود تأخر معرفة الكتاب لدى الأكاديميين العرب إلى أن الثورة التعليمية في العالم العربي لم تتبلور في صورتها الحديثة إلا مع بدايات القرن الماضي، إلى جانب كون هذا الرأي يهمل دور التحولات الثقافية التي شهدها العالم والثورة الطباعية التي كان لها أثرها الكبير في التعرف على الكتاب، واستلهامه في الثقافة العربية وغيرها من الثقافات. ويعد مستوى القراءة والنقد من مظاهر التلقي الإيجابي للكتاب، فقد أعادت الدراسات النقدية التي حظي بها في بواكير الكتابة العربية الحديثة الروح إلى الكتاب، وتمثل ذلك أولاً في جهود سهير القلماوي التي قدّمت دراستها للدكتوراة عن الكتاب في عام 1943م. وكانت بذلك أولى الدراسات الأكاديمية المقدمة في الجامعات العربية عن الكتاب، وقامت بتحليل عدد من الحكايات في الكتاب موظفة المنهج التاريخي والتأويل الاجتماعي. وكان عملها بداية توجه الخطاب النقدي إلى هذا الكتاب، ومن ثم يقودنا ذلك إلى المستوى الرابع المتصل بالتوظيف والتأثر من خلال استلهام النصوص الإبداعية له، في المسرح والرواية والقصة القصيرة وغيرها، وهو أمر لا يتناسب مع مقالة كهذه. لقد لامس عبدالفتاح كليطو في كتابه "العين والإبرة: دراسة في ألف ليلة وليلة" ما يحدث للكتاب حالياً من مصادرات، عندما عرض لخرافة تؤكد أن من يقرأ "ألف ليلة وليلة" من أولها إلى آخرها سيموت حالاً، ويُعيد ذلك في تأويله إلى أسباب ربما كان منها عدم توفر الوقت لقراءة الكتاب برمته، أو إلى اعتقاد بأنه لا يجب أن يُقرأ، أو لكونه عديم الجدوى، ثم يعود كليطو إلى قارئه ليطمئنه بأنه "لن يموت بسبب الليالي، لكونه لن يتمكن حتى وإن رغب في ذلك من إتمام هذا الكتاب المتشظي الذي يعد متناً يضم عدداً لا يُحصى من المخطوطات والطبعات والترجمات والإضافات والشروح والكتب المعادة، وسيظل هناك أبداً نص آخر من الليالي قابلاً للكشف والقراءة. إن الإدانة المتطيرة تتلاشى داخل تعرجات كتاب عُدّ بحق كتاباً لانهائياً". ولذلك علينا أن نركز على أمرين: إن انتظار نسخة جديدة من الكتاب سيحمل معه نسخة جديدة من تلقٍ سلبي، وإن مظاهر التلقي السلبي تلك مع تنوعها وتعددها وظهورها في صور جديدة لن تلغي الكتاب ولن تقلص قراءه، بل ستضيف إليه صوراً أخرى من مستويات التلقي الإيجابية، ولن يُضاف إلى أولئك سوى رصيد "محاولة قتل كتاب".