ودعنا أخيراً، العالم الجليل الدكتور عبده الراجحي أستاذ العلوم اللغوية في كلية الآداب في جامعة الاسكندرية، عن عمر يناهز الثالثة والسبعين عاماً، بعد أن عاش حياته راهباً في محراب لغة الضاد، تنقيحاً ودرساً وتحقيقاً وتأصيلاً ونقداً، ويعد الراجحي من الأكاديميين المتبحرين في علوم التراث، العارفين بمفاتيحه وكنوزه، ومن المنفتحين على الدراسات اللغوية الغربية، بأطيافها المختلفة، ومشاربها المتباينة، بعد تمحيصها وسبر فوائدها، واحتلاب ما يفيدنا منها. ولا أدل على مكانته اللغوية الرفيعة، من تأثيراته الحاضرة في كل المحافل العلمية اللغوية العربية والإسلامية، فهو رائد مدرسة لغوية أصيلة، تعتمد أركانها على الانسياح اللامحدود على المعارف قديماً وحديثاً، مع إعطاء الأولوية لعصرنة اللغة وإيجاد معجم لغوي معاصر، يقترب من المعاجم الأوروبية والأميركية ك «وبستر»، و «أكسفورد» مثلاً. ولد الراجحي عام 1937 في محافظة الدقهلية في مصر، ونال شهادة الليسانس بامتياز في جامعة الاسكندرية عام 1959، والماجستير عام 1963، ثم الدكتوراه في الآداب والعلوم اللغوية عام 1967 في جامعة لندن بامتياز. تقلد أرفع المناصب الجامعية: فكان رئيساً لقسم اللغة العربية بآداب جامعة الاسكندرية، وعميداً لآداب جامعة بيروت العربية، ومديراً لمركز تعليم العربية للأجانب، وأستاذاً زائراً بجامعة الإمام ابن سعود في الرياض، وجامعات موسكو وماليزيا واليابان، وأوزبكستان وتتارستان، كما كان المسؤول العلمي عن ضبط النص في «مكنز السنة» المشرفة. وكان عضواً بمجمع «الخالدين» للغة العربية في القاهرة. وللراجحي دراسات وبحوث احتلت أرفع المكانة والتقدير لدى العلماء والأكاديميين والمفكرين، ومنها: «فقه اللغة في الكتب العربية»، و «اللهجات العربية في القراءات القرآنية»، و «منهج ابن جني في كتابة المحتسب»، و «الشخصية الإسرائيلية»، و «التطبيق النحوي»، و «دروس في شروح الألفية واللغة وعلوم المجتمع»، و «النحو العربي والدرس الحديث»، و «علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية»، و «دروس في المذاهب النحوية»، و «عبد الله بن مسعود». أما عن بحوثه ومقالاته، فهي لا تُعَد، منها: مخطط أساسي للدراسات اللغوية بالجامعات، وعلم الأسلوب، وتعليم العربية للأجانب، وإسهامه في تطوير بحث الفصحى، والمواءمة، والتراث العربي ومناهج علم اللغة، والنحو العربي وأرسطو، والنحو في تعليم العربية لغير الناطقين بها، والتجربة الانكليزية في المعجم التاريخي، وتحديات العنصر البشري، وتعليم العربية من أين نبدأ؟ وكان للدكتور الراجحي أعظم الأثر والمساهمة في الإشراف على مواد المعجم التاريخي للغة العربية بمجمع «الخالدين» القاهري، وعلى جمع المواد وغربلتها، ومحضها وتبويبها كشواهد تاريخية على مرونة اللغة وعصرنتها لكل الحقب الزمنية، كما كان رحمه الله تعالى من المطورين بالنصوص والشواهد الجديدة للمعجم الكبير الصادر عن المجتمع القاهري، كما كان يمثل ركناً رئيسياً، لا يمكن إغفاله، في ما يتعلق بتسيير النحو العربي وتذليله، باعتماد آليات جديدة لدرسه وشرحه وعرضه. وعن سبل تعليم العربية الآن في المدارس يرى الدكتور الراجحي أنه: «مع التجارب العالمية، فإن الإجماع يكاد ينعقد على أن المنهج الاتصالي «Communicative» هو الأفضل والأنفع في تعليم اللغة وتعلمها، وهو يعني «المواجهة الشخصية» ويفضي إلى اكتساب المجال «الوجداني» أهمية خاصة بحيث يجعلنا نبني (علاقات) فلقد كانت الاتجاهات السابقة «في تعليم اللغة» تمدنا أولاً بالوسائل، ثم بالأهداف، ثم بالمادة التعليمية، فالعلاقات الشخصية، وهو ما أنتج ما يعرف بالتعلم الدفاعي، أما الآن فنحن نبدأ بالعلاقات الشخصية، أي أننا ننحو منحى بشرياً، لأننا نعلم بشراً». ويؤكد الراجحي عبر رؤيته التجديدية العصرية لتعليم العربية تعليماً واقعاً «أن تعليم العربية جرى في العقود الخمسة الأخيرة – ولا يزال – على نماذج سابقة الصنع «Prefabaricated» لم تصدر أصالة – عن معالجة موضوعية لخصائص (البيئة) التي تعيش فيها العربية، وكم عانى الناس ولا يزالون من الاستيراد الكامل لهذه النماذج وأن ثمة غياباً شبه كامل لوصف علمي حقيقي للعربية يواكب الإيقاع العلمي لعصر الحاسوب في الدول العربية.