إن المجتمعات التي ما زالت مؤطرة بمفاخر الماضي وأوهامه ومحاصرة باستحكامات وحصون البرمجة التلقائية ترفض الاعتراف بحصول تغيرات نوعية في الحضارة الإنسانية وتدعي أنها مكتملة التكوين منذ آماد بعيدة وتتوهم أنها تفيض حكمة وعلماً إن السؤال الخاطئ يدفع إلى إجابات خاطئة لأنه يوجّه الأذهان في غير الاتجاه الصحيح فمنذ أن جوبه العرب والمسلمون بالتقدم الأوروبي الخارق قبل قرون وهم يكررون السؤال عن أسباب التخلف التي لم تكن جديدة بدلاً من أن يسألوا عن عوامل التقدم التي استجدت على الحياة الإنسانية ومكنتها من تحقيق هذه الطفرات المدهشة في كل المجالات . إن السؤال عن أسباب التخلف يخفي أصالة وعمق وتلقائية التخلف ويوهم بأن للتخلف أسباباً طارئة . إن هذا المنحى الخاطئ للسؤال قد غيب عنا حقيقة أن التخلف هو الوضع التلقائي الأصيل لكل المجتمعات وأن الخروج من هذه التلقائية الأصيلة يتطلب طفرة ثقافية خارقة تصاحبها جهود استثنائية جبارة وتلزم له حشد طاقات قوية كافية وتغيرات اجتماعية بنيوية عميقة فالخروج من الكهف الثقافي التليد والانفصال عن المسارات العميقة الآسرة للحركة الدائرية أو الحركة الأفقية والانتقال بالمجتمع إلى مسارات صاعدة لا يمكن أن يحصل بما يطرأ من إضافات كمية رتيبة مهما بلغ مقدار الكم المضاف كتعميم التعليم ونحوه من الاضافات الرتيبة التي هي بطبيعتها لا تستطيع أن تخترق حصون البنية الثقافية الصلدة الراسخة ولا أن تؤثر فيها تأثيراً فاعلاً يؤدي إلى إعادة تكوينها تكويناً جديداً منفتحاً ومتفاعلاً مع الأوضاع العالمية الجديدة تفاعلاً إيجابياً يتيح الاستفادة القصوى من التغيرات النوعية الطارئة وإنما تظل معطيات التعليم وغيرها من المعطيات الرتيبة طلاءً خارجياً أو شكليات تتطبع بما هو سابق لها ومستقر قبلها إلا إذا جاز أن نتوقع من الطائرة أن تقلع وتحلق في الجو من غير أجنحة ولا روافع كافية فليست طاقة المحركات وحدها كافية لرفع جسم الطائرة الثقيلة بأحمالها الباهظة وانتشالها من قبضة جاذبية الأرض الآسرة بل لابد مع طاقة المحركات وجود الأجنحة وبقية التجهيزات الأخرى الضرورية الكافية لتتكامل طاقة الاقلاع وبذلك ينهض الجسم الثقيل ويسبح في الهواء برشاقة وسرعة فحركات المجتمع الرتيبة مهما بلغت الاضافات الكمية تبقى للتحريك الأفقي الدائري أما الصعود فيتطلب حشد طاقات نوعية استثنائية كافية للانفكاك من جاذبية التخلف التلقائية الآسرة، والانطلاق في آفاق الازدهار. إن العالم يعيش الآن وضعاً جديداً كامل الجدة فليس مجدياً التعاطي مع هذا الوضع الجديد بتغيراته السريعة المدهشة بنفس مفاهيم وعقليات ومهارات وأساليب وقيم وطريقة تفكير وتصورات الحضارات القديمة حتى مفهوم التخلف نفسه لم يكن معروفاً في الحضارات القديمة لأن التقدم ذاته لم يكن معروفاً ولم يكن هدفاً ولم يكن محل تفكير أو تطلع فالبشرية بمختلف حضاراتها كانت محكومة بالتلقائية الشاملة المستحكمة بل لقد كانت فكرة التراجع هي الفكرة المسيطرة فكان العصر الذهبي النموذحي هو العصر الأقدم فكان الوهم المسيطر هو أن كل جيل يكون أدنى من الجيل الذي سبقه ففكرة التقدم كانت فكرة بعيدة كل البعد عن التفكير الإنساني في الحضارات القديمة أما الوجه الآخر لهذه الحقيقة فهو أنه لم يكن هناك وضع يمكن أن يوصف بأنه متخلف لأن الجميع كانوا متخلفين ، وكل الأوضاع كانت متخلفة فمصطلح التخلف هو مفهوم جديد تماماً فلم يكن معروفاً إلا في العصر الحديث فهو النقيض لمفهوم التقدم وهو مفهوم طارئ لم يكن أيضاً معروفاً في تلك الحضارات فما من حضارة قديمة باستثناء الحضارة اليونانية استطاعت أن تحقق خلال عشرات القرون وفي مختلف الأزمان أي تقدم نوعي يميزها عن غيرها وينقلها من الوضع التلقائي المستحكم وحركته الدائرية ويرتقي بها إلى مستوى التطورات النوعية الطارئة فهذه الإبداعات النوعية لم يكن ممكناً تحقيقها في نطاق الحركة التلقائية الدائرية المستحكمة وإنما أبدعتها الحضارة الحديثة والمعاصرة حين نفرت من الاستكانة للتلقائية وانتقلت إلى مستوى فورات المغامرة والريادة والكشف وعمليات النقد والفحص والتحقق والتحليل ورفض البقاء في الكهف الثقافي المغلق وقد أنتج ذلك حركة سريعة صاعدة وإنجازات متنوعة خارقة... أما في العصور القديمة فقد كانت أوضاع المجتمعات متشابهة أو متقاربة ولم يكن يحصل بينها اختلافات نوعية واستمرت على ذلك التشابه خلال كل القرون فلم يكن يوجد مجتمعات متقدمة وأخرى متخلفة وإنما كان الجميع متخلفين.. لقد تعددت الحضارات لكنها كانت تتحرك تحركاً أفقياً دائرياً ضمن مسارات ثابتة لا تخرج عنها وتحت سقف واحد لا تتجاوزه وضمن نطاق دائري ضيق يحدد مجالات الحركة ويحكم حقول النشاط ويحصر آفاق الاهتمام غير أنه بحصول الطفرة الثقافية والحضارية في أوروبا في العصر الحديث انكشفت أوضاع المجتمعات الأخرى التي ظلت مأسورة بالتلقائية الثقافية لأن تلقائيتها أبقتها تدور في ذات المستوى وعلى نفس المسارات فأصبحت هذه المجتمعات توصف بأنها متخلفة قياساً بمعايير الحضارة الحديثة المتقدمة وافتراضاً بأنها قد وعت التغيرات النوعية الطارئة وأنها تحاول اللحاق بالمتقدمين.. غير أن هذا الافتراض ليس صحيحاً فهذه المجتمعات لا تستحق أن توصف بأنها متخلفة لأنها في وضع أسوأ من التخلف فهي خارج مضمار السباق العالمي المعاصر ولا تؤمن بنقطة البداية ولا تعترف بأهمية التغيرات النوعية التي تحققت للإنسانية وترفض الاعتراف بحصول ما يستوجب منها أن تتغير وتصر على أوهامها بأنها الأرقى والأعلم والأفضل والأزكي فهي تريد من المزدهرين أن يتبعوها لا أن تتبعهم إنها مغتبطة بحصونها الثقافية ، وراضية كل الرضا عن نظامها الفكري وعن اهتماماتها السائدة إنها في اتجاه معاكس تماماً لمسيرة التقدم بينما أن وصْفها بالتخلف يوحي بأنها قد استفاقت من غيبوبة التلقائية وأنها قد أفلتت من قبضة الابتهاج التلقائي بالموروث وأنها قد اكتشفت التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة وأنها تسعى لاكتساب معارف العصر ومناهجه وأساليبه ونظمه وإمكاناته ومنظومة قيمه وأنواع اهتماماته وتنوع نشاطاته ، وأنها قد أدركت المسافة الهائلة التي تفصلها عن هذه التغيرات النوعية الطارئة وأنها قد دخلت مضمار السباق العالمي وأن الفرق بينها وبين المجتمعات المتقدمة المزدهرة هو فرق في المسافة أو الدرجة أو بداية الانطلاق ولكن هذا التصور أو هذا الإيهام لا يتفق مع الواقع فالفرق بين المجتمعات المزدهرة التي تكرس الحاضر وتندفع للمستقبل ، وبين المجتمعات المتحجرة التي تعيش الماضي وتستغرق فيه هو فرق نوعي فهذه المجتمعات ذات الثقافات التلقائية المغلقة ما زالت تعتقد أنها الأحكم والأعلم والأرقى وأنها تمثل الصفوة الإنسانية التي على كل المجتمعات أن تسترشد بها وأن تسير خلفها وهي بهذا العشق لذاتها الدميمة وبهذا الرفض للطارئ الجميل تبقى خارج مضمار المسيرة العالمية المندفعة نحو الأمام إنها ترفض الدخول الإيجابي في مضمار السباق أما إذا دخلته فإن دخولها ليس من أجل المشاركة الإيجابية وإنما من أجل الإرباك فهي تدخله لكي تربك المتسابقين. إنها نشاز على النسق الحضاري العالمي الذي يجيش بالفعاليات المنتجة ويمور بالايجابيات العظيمة... إن المجتمعات التي ما زالت مؤطرة بمفاخر الماضي وأوهامه ومحاصرة باستحكامات وحصون البرمجة التلقائية ترفض الاعتراف بحصول تغيرات نوعية في الحضارة الإنسانية وتدعي أنها مكتملة التكوين منذ آماد بعيدة وتتوهم أنها تفيض حكمة وعلماً وأنها مكتفية بل تفيض عن الكفاية بطريقة تفكيرها ومنظومة قيمها ونمط اهتماماتها وأنها الأغنى بالمفاخر والأعظم بالانجازات وتعتقد أنها الأعرق في الحضارة ، وتصر على البقاء كما كان أسلافها في تفكيرها وتصوراتها ومنظومة قيمها واهتماماتها وأساليبها وتتجاهل التغير الهائل الذي حققه المزدهرون رغم أنها لا تستطيع الاستغناء لحظة واحدة عن انجازاتهم ومبتكراتهم. إن وصف هذه المجتمعات العاجزة بأنها متخلفة وهي بهذا الاصرار على البقاء مأسورة بالتلقائية العليلة المتحجرة يوهم بانتسابها للمنظومة العالمية مع أنها ليست كذلك وهذا الوهم يحجب شراسة الرفض ويخفي حقيقة الأوضاع البائسة فهو يوهم بأنها على نفس الخط العالمي المتسارع المتدافع الذي يزخر بالريادة والاستجابة ويفيض بالإنتاج والإبداع وأنها تحاول اللحاق بالمتقدمين المزدهرين مع أنها حقيقةً ما زالت ترفض بمنتهى القوة والإصرار والانتفاش وعشق الذات أن تخرج من نطاق الحركة الدائرية التلقائية المستحكمة فهي لا تعترف بحاجتها إلى أية إضافة من خارجها إنها لا تؤمن بنقطة البداية في مسيرة التطور ولا تسعى للتغير فهي لا تقر بحصول تغيرات نوعية مهمة ولا تعترف بالمزايا والفاعليات الإنسانية الطارئة في القرون الحديثة... إن التقدم هو كسْر للتلقائية المهيمنة وانجاز إنساني نوعي طارئ لم تعرفه الحضارات القديمة فهو طفرة حديثة خارقة إنه اختراق للحواجز الراسخة إنه إمكان جديد طرأ على الحياة الإنسانية إنه فضاء مفتوح على كل الآفاق وأمل مدفوع بلهفة التطلعات أما التخلف فهو تلقائي الوجود وتلقائي التكوين وتلقائي الهيمنة إنه ليس طارئاً على الحضارة عموماً كما أنه ليس طارئاً على حياة أي مجتمع يعاني من استمراره وإنما هو الأصل الراسخ الذي رافق الإنسان في مختلف الأزمان والأوطان ولم يكن من السهل تجاوز هذا الأصل الراسخ المتين لولا أنه طرأ على بعض الثقافات من العوامل النوعية القوية المزلزلة ما جعلها تنفك من هذا الوضع التلقائي البائس وتنطلق في مسارات التقدم والازدهار. إن أي تقدم في الأفكار الخلاقة أو العلوم الممحّصة أو التقنيات العجيبة أو النظم المتطورة أو المناهج الدقيقة أو الأساليب الراقية أو المؤسسات الجديدة أو المهارات العالية أو العلاقات المفتوحة يتناقض نوعياً مع التلقائية المتحجرة فهو ثورة فكرية على التلقائية الآسرة وخروج استثنائي مدهش إنه يمثل طفرة ظافرة وقاطعة وفاصلة ، إنه انطلاق ريادي خارق وتأسيس لمستوى مختلف كلياً عن كل ما سبقه من مستويات في الأوضاع والإمكانات والمناهج والأساليب والطاقات والمعارف والمهارات والمكاسب الإنسانية الهائلة... إن التخلف تلقائي التكوين وتلقائي الرسوخ وتلقائي الامتزاج في النفوس وتلقائي الاستمرار والدوام وتلقائي المقاومة ورفض الجديد ، إنه بنية قوية شديدة التماسك وعصية على الاختراق وهو عريق وأصيل موغل في العراقة والأصالة فهو الوضع الذي وجَد ويجد الناس أنفسهم محكومين به منذ مئات وآلاف السنين أما تجاوز هذا الأصل التلقائي فيحتاج إلى إدراك جديد خارق وإلى احتشاد استثنائي جارف ينقل المجتمع من تلقائيته العميقة المعقدة ومن حركته الدائرية المغلقة إلى آفاق مفتوحة وإلى انطلاقة صاعدة وحركة فاعلة والتزام حر وإنتاج حافل وإدارة حاشدة وتنوع متآزر وتنظيم ناضج وبيئة بهيجة فالتخلف أصيل وعريق وتلقائي ولكن الوصف بالأصالة هنا ليس مدحاً ولا قدحاً وإنما هو وصف لواقع اجتماعي وثقافي تتوارثه الأجيال تلقائياً بثبات يزداد رسوخاً مع الأيام فحين يتحدث الباحثون عن أصالة الغجر أو سكان الإسكيمو أو هضبة التبت أو الطوارق الملثمين فإنهم يقصدون أنهم يختلفون عن غيرهم من المجتمعات بعادات فكرية وسلوكية ثابتة يتوارثونها تلقائياً على مر العصور من غير تغيير إلا بالمزيد من الترسيخ والتأصيل فهي ذات جذور عميقة وراسخة وثابتة تضرب في أعماق التاريخ. وليس في هذا التمايز وتأكيد الأصالة أية إشادة بخلاف ما يوهم به اللفظ وعكس ما يتوهم الكثيرون الذين اعتادوا أن يعتبروا الأصالة إشادة بينما أنها تشير إلى البقاء على نفس الأوضاع الاجترارية والاستمرار في التناسل الثقافي التلقائي الرتيب والعجز عن التغير الذي هو من أهم معايير التحضر.. وبهذا الاعتبار فإن كل مجتمع متخلف هو بهذا الوصف يعيش أصالته التلقائية المتحجرة ويستميت للمحافظة على هذه الأصالة الآسرة فالتخلف له جذور عميقة يصعب اجتثاثها وله بنية قوية يصعب خلخلتها وله جاذبية شديدة يصعب الإفلات منها... إن كل وضع قائم ومتوارث ضمن ثقافة مغلقة هو امتداد لجذور عميقة متأصلة ومن هنا تأتي أصالته!!! فالثقافات القديمة كيانات تاريخية قوية قادرة على الصمود المطلق أمام أية محاولة للتغيير أو التطوير وهي في الغالب كيانات صماء وذات قدرة هائلة على البقاء الأبدي والمقاومة العنيدة إنها بطبيعتها مهما كان مستواها ومحتواها تدعي الكمال وتتوهم الاكتفاء وترفض التغير وتستبعد الطارئ إنها تتمحور بقوة حول ذاتها تلقائياً وتدافع بعنف عن نفسها تلقائياً إنها ذاتية المقاومة وعفوية الرفض وهي تنتصر غالباً على أي طارئ ما لم يكن الطارئ قوياً شديداً جارفاً ، إنها تحافظ تلقائياً على تلقائيتها الأصلية فتبقى مغلقة ومتحفزة للمقاومة وبذلك تظل محرومة من أن تتلقى الغذاء من خارجها مع أن هذه التغذية هي شرط النمو والازدهار لكن ما من واقع يعلو فوق ذاته وإنما يبقى على وضعه حتى يأتيه مؤثر قوي جارف يحركه بقوة ويغذيه تغذية كافية من خارجه... إن أوضاع المجتمعات محكومة بقانون القصور الذاتي الكوني القاطع فالتلقائية الثقافية المستحكمة تبقى صامدة مهما طال الزمن وتقاوم بثبات وتنتصر مهما تكاثرت حولها المتغيرات فلا تنفتح للجديد الطارئ إلا إذا كانت قوة الدفع الطارئة أقوى كثيراً من طاقة المقاومة التلقائية كما أن المأخوذين بالبرمجة التلقائية يظلون مغتبطين بتلقائيتهم فيبقون محكوميين بهذه التلقائية المسيطرة ومقتنعين بها قناعة حاسمة تلقائية وهي قناعة وجدانية لا شعورية إنها تتحكم تلقائياً بعواطفهم وتفكيرهم وسلوكهم فهم ملكُ ثقافتهم بشكل تلقائي وليست الثقافة ملكاً لهم إنهم معجونون بها لأنها هي التي شكلت عقولهم وحددت مواقفهم وكونت رؤاهم وصاغت اهتماماتهم، إنهم يفاخرون بكل الأسوار التي تبقيهم على تلقائيتهم المصمتة ويعتبرونها برهان الأصالة فهذا الموروث الذي يملكهم ولا يملكونه قد طبّعهم على أن يعتبروه أصالة عظيمة وقيمة عالية ومزية استثنائية لا يجوز التفريط في شيء منها بل لابد من الالتزام بها والمحافظة عليها والدفاع عنها والاستماتة في سبيلها وليس التعصب المشحون بالحقد والكره والغضب المتفجر الذي حرك مختلف الاتجاهات والقوميات والاثنيات والأعراق والمذاهب سوى أنماط من ادعاءات الأصالة والدفاع عن الموروث والاستماتة الحمقاء في الاحتفاظ بالهوية التاريخية مع أنها قد تكونت تلقائياً وتتوارثها الأجيال تلقائياً وتطبّع بها الجميع تلقائياً فالناس مصوغون بها وليسوا صائغين لها فليس منهم من جاءها اختياراً وإنما تطبّع بها تلقائياً فهي القالب وهي العقل وهي العاطفة وهي الذات نفسها... أما الأفكار الخلاقة والآداب المزدهرة والعلوم الدقيقة والتقنيات الباهرة وكافة منجزات الإنسان الحديثة فهي منجزات طارئة على الحياة البشرية فهي إضافات نوعية خارقة للتلقائية فلا يمكن أن تتحقق أبداً ضمن الثقافات التلقائية المغلقة بل هي ثمار طفرات فكرية عاصفة وزلازل ثقافية جارفة لذلك فإنها بهذا الاعتبار خروج عن التلقائية المغلقة ومخالفة للأصالة المتوارثة فلا يصل إليها ولا يشارك فيها مشاركة إيجابية سوى المجتمعات التي تخرج من تلقائيتها وتندفع لاكتساب تلقائية جديدة تتأسس على التغيرات النوعية الحديثة إنها حين تهضم هذه التغيرات وتتمثلها وتذيبها في ذاتها وتمارسها بحماسة وحميمية تكتسب تلقائية جديدة فتنتقل من تلقائية التخلف إلى تلقائية التقدم.. إن الإنسان كائن تلقائي فمعارفه ومهاراته وأداؤه وسلوكه لابد أن تنساب تلقائياً فمقومات التقدم لا تصبح فاعلة حتى تتم ممارستها ممارسة حية مشحونة عاطفياً وبذلك تحقق تبيئتها وتصير أسلوب حياة يتدفق تلقائياً أما المجتمع الذي يرفض الخروج من نطاق تلقائيته التليدة فإنه لا محالة سوف يخسر إمكانية التقدم لأن الفاعلية الإنسانية مرتهنة بتلقائية الأفكار الخلاقة وتلقائية المعرفة الممحّصة وتلقائية الأداء وتلقائية السلوك المتحضر وليس بالإمكان التفاعل ولا التكامل بين تلقائيتين متعارضتين..