يبدو أن الساحة الفكرية العربية تعيش حالة من المرونة الزائدة في عملية إطلاق الألقاب العلمية. وهي حالة تستوجب التوقف والمراجعة لتقييم هذا الوضع من حيث المفهوم، والمعايير والمتطلبات. الملاحظ وجود عدد كبير من المصطلحات، وسهولة في منحها دون أن يعرف الناس شروطها ومن يجيزها ومن يستحقها وما هي متطلباتها السابقة واللاحقة. إن ما يبرر المراجعة ليس فقط سهولة الحصول على اللقب، وانما لجوء صاحبه بعد أن يحصل عليه إلى استخدامه كتأهيل له ليشارك في كل القضايا وقد يمنح نفسه ترقية فيتحول من عالم إلى علامة عصره، ثم يستخدم اللقب للحوار والتعليق والمداخلات والإفتاء في كل القضايا. يفعل ذلك مستمتعاً بلقبه بل إنه أحياناً يجمع بين عدة ألقاب فهو العالم، والداعية، ورجل الدين ... إلخ. يندفع صاحب اللقب مدفوعاً بألقابه ليتفاعل مع كل قضايا المجتمع وينظر فيها ويزعم أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة، ومن يقول بغير ذلك فهو متأثر مع الآخر ضد مصلحة دينه ووطنه. هذا العالم، أو الشيخ أو الداعية يجد في نفسه الثقة في الإفتاء بكل شؤون الحياة، وإن فعل هو بعكس ما يقول؛ أي ناقض ما أفتى به شخصياً فإن لديه معيناً لا ينضب من الفتاوى لتبرير سلوكه المناقض لفتواه. هنا ننتظر دور الجهات العلمية والإدارية ذات العلاقة ومنها الجامعات لوضع إطار علمي واضح يحدد التعريف، والشروط والمسؤوليات. من هو العالم؟، ومن هو الشيخ؟ ومن هو العلامة؟ وما هو المقصود من مصطلح (رجل الدين) ومن هو الداعية وما هي شروطه ومسؤولياته؟ وفي انتظار هذا الإصدار أستطيع الإشارة إلى إحدى الصفات المشتركة التي يفترض أن تكون موجودة لدى الجميع من أصحاب تلك الألقاب وهي (القدوة). هذا المبدأ العظيم هو أحد أساليب التربية السليمة المؤثرة في بناء الأجيال. ولذلك تنتابنا الدهشة ونشعر بالصدمة حين نشاهد ونسمع أحد الذين يطلق عليهم لقب (عالم) أو (شيخ) وهو يقدم في حواره مع الآخرين نموذجاً سيئاً لا يليق بالعالم ولا بالشيخ ولا برجل الدين. حين يهبط الحوار ويهبط معه من يفترض فيه أن يكون قدوة لغيره فإن المتابع سيطرح تلك الأسئلة التي تبحث عن تعريف العالم وشروطه. سيجد المتلقي صعوبة في استيعاب أن الخطاب الديني أصبح مجالاً مفتوحاً لمن ينحاز لقضية تكافؤ النسب، ولمن يجد صعوبة في السيطرة على انفعالاته. إن الألقاب التي يحصل عليها الأشخاص بجهودهم، وبحوثهم، وإنجازاتهم يفترض أن تؤدي بأصحابها إلى التواضع والحكمة، وتقبل النقد، وعدم التعالي. أما إذا كانت تلك الألقاب بدون بحوث ولا إنجازات فإنها قد تقود صاحبها إلى التمسك بها وإبرازها واستخدامها ورقة في كسب الحوارات الفكرية، وكسب الجمهور وبالتالي يصبح المشهد كأنه مباراة رياضية لا بد فيها من منتصر، وأحياناً يتحقق الانتصار بالحرب النفسية أو برفع الصوت لتغطية ضعف الحجة. وهكذا فإن الخطاب الديني لا يمكن أن يستوعب من يحتفي باللقب أكثر من حرصه على المضمون، ويحرص على المشاركات بكافة مستوياتها على حساب الجودة، ولا يمكن أن يستوعب من يبتعد بلغة الحوار إلى تبادل الشتائم والتفاخر بالعصبية. وخطاب العلماء كذلك لا يقبل أن ينتمي إليه من يتحاور بأسلوب غير علمي، ورجال الدين هم أحرص الناس على أن يكونوا قدوة لغيرهم بتعاملهم الأخلاقي حتى مع من يختلف معهم في الرأي.